نجلاء العتيبي
في عالمٍ يزدحم بالضوضاء، وتختلط فيه الأصوات بين صراخٍ عالٍ وهمسٍ خافتٍ، تظلُّ الكلمة الطيبة شعاعًا يخترق الظلام، ونبضًا يُحيي الأرواح التي تئنُّ تحت ثِقل الحياة. قد تبدو الكلمة مجرد حروفٍ تُنطَق أو تُكتَب، لكنها في جوهرها حياة تتجدَّد، وأملٌ يتوهَّج، وجسرٌ يمتدُّ بين القلوب مهما تباعدت المسافات.
حين يتحدَّث أحدهم بلطفٍ يجد في نفوس الآخرين صدًى أعمق مما قد يتخيَّله، فالكلمة الطيبة ليست مجرد عبارة تُلقى بعفوية، بل هي فعلٌ إنسانيٌّ يترك بصمة لا تزول. كيف لا، وهي قادرة على تغيير مسار يومٍ كاملٍ، أو تخفيف عبءٍ كان يُثقل صدر إنسان، أو حتى إعادة بناء علاقة توشك أن تنهار؟
إن تأثير الكلمة الطيبة يمتدُّ في أبعاده إلى داخل النفس البشرية، عندما يسمع الإنسان كلمة مشجِّعة، كـ»أحسنت» أو «أنا أثق بك»، فإنه لا يسمعها بأُذنيه فقط، بل يشعر بها تتغلغل إلى أعماقه، تلك الكلمات تولِّد إحساسًا بالقيمة الذاتية، وتذكِّر الإنسان بأنه ليس وحده في معركته اليومية، وكأنها دفعة خفية تشجِّعه على الاستمرار في السير، مهما كانت الطرق وعرةً.
لكن الكلمة الطيبة لا تقف عند حدود الفرد، بل تمتدُّ إلى المجتمعات بأسرها، فحين تنتشر لغة الاحترام والتقدير، يتحوَّل المجتمع إلى نسيجٍ مترابطٍ من الألفة والتعاون، تجد الناس يبتسمون لبعضهم، يساعدون دون تردُّد، ويشعرون بأن الحياة أكثر دفئًا. على النقيض، فإن الكلمة الجارحة كفيلةٌ أن تهدم جسورًا من الثقة، وتزرع بذورًا من الشك والانقسام.
وليس من قبيل المصادفة أن الكلمة الطيبة تُشبه البذرة الصالحة التي تُغرس في أرضٍ خصبةٍ، قد لا يظهر تأثيرها فورًا، لكنها بمرور الوقت تنمو وتُثمر، كلمة واحدة قد تكون بداية لرحلة نجاحٍ، أو مصدرًا للإلهام، أو حتى سببًا لتغيير حياة شخص بشكل كامل، هناك قصص لا تُحصى عن أشخاصٍ كانوا على وشك الانهيار، لكن كلمة عابرة أعادت لهم إيمانهم بأنفسهم وبالحياة.
حتى في أصعب الأوقات، تظلُّ الكلمة الطيبة أقوى من الألم، تخفِّف من قسوة المصائب، وتربط الجرح برباطٍ من الحنان، حين يواجه الإنسان مأساةً أو فقدًا، فإن كلمات العزاء والمواساة تكون كالبلسم الذي يُهدِّئ الجراح، ليست الكلمات بديلًا عن الحلول، لكنها تمنح القوة للبحث عنها.
وعلى الرغم من بساطتها الظاهرة، فإن اختيار الكلمة الطيبة ليس أمرًا عشوائيًّا، بل يحتاج إلى قلبٍ واعٍ وعقلٍ مُدركٍ، فالكلمات الطيبة لا تُقال مجاملةً أو تملقًا، بل تنبع من صدق المشاعر، وتُقال في الوقت المناسب، وبالطريقة التي تحمل معناها الحقيقي، إنها فنٌّ يتطلب حساسية فائقة تجاه الآخر، وقدرةً على إدراك احتياجاته العاطفية والنفسية.
الكلمة الطيبة ليست مجرد فضيلة أخلاقية، بل هي استثمار في العلاقات الإنسانية، كل كلمة تُقال بلطفٍ تعود يومًا ما بشكلٍ أو بآخر، ربما تكون كلمة شكرٍ بسيطةً، أو دعاءً صادقًا، أو حتى نظرة امتنان صامتة، لكنها بالتأكيد تعود؛ لأن الخير الذي نزرعه بالكلمات لا يضيع أبدًا.
قد لا نستطيع دائمًا تغيير العالم بأفعالٍ كبيرةٍ، لكن بإمكاننا أن نُحدث فرقًا حقيقيًّا بكلمة طيبة، الكلمة الطيبة قوة هائلة، لا تحتاج إلى جهدٍ مادي أو وقتٍ طويل، بل إلى نية صافيةٍ وقلبٍ ينبض بالإنسانية، هي الهدية التي لا تنفد، والنور الذي لا يخبو، والعطاء الذي لا ينضب، فلتكن كلماتنا جسرًا للحب، وسلامًا للنفوس، ودواءً للأرواح التي تنتظر بلهفة لمسةً من لطف الحياة.