رمضان جريدي العنزي
دمشق مدينة عربية أصيلة مبللة بالخير، ومعجونة من فل وياسمين، دمشق مثل طائر يجوس غرف القلب العربي، ومثل فراشة وحرير، ونافذة مفتوحة على إشراقة شمس، دمشق قصيدة نخبوية، وحقل مزروع بسنابل الحياة، أديم وغيم وسديم، ونهر وظل، وشذى عطر، دمشق رواية الغيم والقمر والوادي والندى، نافورة ماء، وضوء قمر، وضفيرة مجدلة، كحل العيون دمشق، وكحل القصائد، حلماً يمر نحو الحلم، وسرب حمائم، وزهرة في حديقة يانعة، ندى في رعويات المواسم، وربيع يتفتح على وجه الأرض، يمامة لها نشيد، فراشة في ليل نيسان، وشمس في حزيران، ومساء مدجج بالنجوم، حتى جاءها الغريب البعيد بأدخنة وأغبرة وأعواد ثقاب ليسقط القرميد، ويشعل الأشجار، ويحرق الياسمين، باغت طيور النورس، وقتل العصافير، خدش الجلد، وفرك العيون، وأوغل في تعذيب الأرض والجسد، جرعها سم الحياة، وأذاقها الممات، هذا الغريب أفعى بسبعين ناباً وظفراً، وحش يمشي في الظلمة، ليسرق البيوت، وينهب الشوارع، أطفأ الشموع، وأسدل الستائر، وأوغل في الدم والخراب، أعمى لا يعرف الليل من الظهيرة، ملأ المدينة بالخراب والدمار والجوع والتعب، وحول الماء إلى نار، ورشها بالرماد، كسر المرايا، وجاء بالخصام والشتاء والقحط والشتات، وأطفأ الحلم في عيون الناس، حشد الأرض والناس بالعواصف والمآسي والدموع، مجرم ولص ومارق يطارد معنى الحياة، ينقض على البيوت كخفاش مسعور، أو وحش مخيف، طامع يعمل لطامع، خرب المدينة العربية الزاهية من أجل عيون الغريب البعيد، ليعيش على أطلالها كما يعيش البليد، دمشق مدينة الياسمين والعلم والأدب، مدينة الزهاء والبهاء، كأنها بحيرة من ياقوت وزمرد، ضربها الأرعن بألف ألف ناب وسهم وقذيفة وشظية، حتى حولها إلى أرض من تيه وشتات وخراب، وما ترك فيها غير صفصافة ميتة، وياسمينة تئن من الظمأ، ومئذنة محطمة، متوحش هذا اللعين، تمترس خلف الغريب، وأشعل في أرض دمشق النيازك، لكن في الأخير لفظت دمشق كل غريب، وطردت كل لص صفيق، وعادت لحضنها العربي بكل عنفوان وثقة وصلابة.