د. منى بنت علي الحمود
تطالعنا الأيام بين حين وآخر بأخبار فقد لعديد من الفنانين.. والذين بلا شك يتركون أماكن خالية على أرصفة الحياة.. لم تعد تصلح لغيرهم!!. ويوما بعد يوم تصبح الطرقات «هاجرة» كدلة قهوة كانت مفعمة بالحياة عندما كانت تتراقص فيها قهوة شقراء منتشية بغليانها.. كلما زاد الفقد من حولنا زادت وحشتنا الوجودية وانطفأت أنواره الجمالية التي كنا نعيد بها صياغة كتابة سيناريو الوجود من حولنا.. نحن نلمس ذلك الظلام والعتمة والبرد والخشونة حقيقة، وبعيدا عن أي من التمثيلات البلاغية.. وهذا ما أسميته بـ»الوحشة الثقافية» عندما يصبح الوجود شاحبا موحشا بفقد الفن.. متعريا من الجمال شيئا فشيئا.
المربك في الفقد هو أن من يصل إلى خط النهاية ليس بالضرورة أن يكون هو أول من بدأ بالسير، ولا حتى من سار حثيثا.. وهذا محفز وطموح!!.. ولكن المخيف أنهم لا يسيرون أصلا إلى خط النهاية.
ماذا عن تلك النشوة المجنونة الكامنة داخلي عندما فقدت سني الأول.. كان يوما خالدا في ذهني.. كنت سعيدة متغيرة «مصبحة بخير».. لا أعلم حتى الساعة ما تلك المشاعر التي انتابتني وأنا أفقد جزءا من جسدي بل وفي كل مرة.. احتفاء بالفقد لايزال ينتاب كل طفل يفقد أسنانه بتلهف.. ولكن الإرباك في أنه لو فقد السن ذاته بعد مدة فسيكون في قمة حزنه وتألمه وسيسعى جاهداً لعلاج ذلك كمن يفقد عضوا من أعضائه.. والمفارقة هنا هل للزمان بصمته على مشاعر الفقد.. أم أنه «الخلف» أو «العوض».. وإذا كان الأمر كذلك فهل من السعادة بمكان لو فقد طفل أمه أن يعطى البديلة أو «العوض».. ماذا يعني لك إذا «فقدت وزنك» أو حتى «خسرته» ثم عوضته.. وماذا لوكان هذا الفقد لوزنك موديا بحياتك!!. هل الرغبة في البقاء رغم عدميتها هي من تدفعنا لمقاومة الفقد.
ينظر العديد إلى الفقد على أنه مرهون بمفارقة شيء لشيء كامن أو كائن فيه.. كمفارقة الروح للجسد.. ولكن أليس هذا نوعا من البهجة؟!. والحرية لنفس تكون قد عانت مع ذلك الجسد الذي أرهقها بتجاذبها معه يمنة ويسرة.. أو حرية لجسد قد عانى من نزوات ونزعات لروح غير خيرة!!. أليس هذا ضربا من الحرية للذات.. أليس نموذجاً للوعي بالذات وانكفائها عن مسؤوليتها.. هناك مراوغة ملحمية بين الذات والوجود لصالح حماية الجسد.. الدافع الرئيس وراء تلك المراوغة هو كسب المزيد من الوقت لا غير.. الخوف من الفقد أو من الوصول إليه هما المحركان لتلك المراوغة التي لا تشبه سوى محاولات التنكر الفاشلة.
ماذا لو تساءلنا هل دورنا الأهم هو التأمل في الحياة أم الفقد والفناء.. نجدنا أمام منعطف كبير يحيل مسارنا قسرا إلى تأملات الفقد!!. فهل يمكن لفكرة الخلود أن تعيدنا للمسار!!. أو ترنيمة تناسخ الأرواح واتحادها أن تشفي خواطرنا.. أو فكرة أن فقدا كفيلا بأن يطبب فقدا آخر.. من المؤسف أن هذا لا يحدث.
ماذا لو لم نكن نفتقد من نفقده فعلا!!. فالمحب يجد حبيبه كامنا في كل تفاصيله حتى وإن كان يفقده فكيف يفقده إذا حتى وإن فقده.. إنها الظلال التي تعاكسنا لتحتوينا.. تحضننا من خلفنا دون أن نلتفت إليها ولو التفتنا لفقدناها.. ماذا لو فقدت ظلك هل ستفقد شيئا ما حقا!!. قد تفتقد شخصا لم تره ولم تسمعه حتى!!. فهل لصوت اللغة ونداءات صورها أن تكون باعثا للوجود والتواجد بمفردها!!.
إذا كانت المعطيات بهذا القدر من الإرباك والغرابة فشعورنا بـ«الوحشة الثقافية» إذا هو ليس شعورا بالفقد بقدر ما هو شعور بالخوف على أنفسنا من تسلل الجمال من وجودنا وضياع أصواتنا وصورنا في مفترقاته دون أن نأبه بأننا أيضا متمسكون بمخاوفنا مراوغين عنها بضراوة لبقائها.. رحلة الفقد تجربة ذاتية داخل صوت صورة وسطور وألحان عطر الآخر.
** **
- مؤسسة ومديرة أكاديمية فنسفة الثقافية للتدريب