د. عيد بن مسعود الجهني
يمثل عام 1897 انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول المشئوم في بازل السويسرية، وعلى الفور كتب هرتزل في مذكراته بعد المؤتمر (أسست الدولة اليهودية) على الجانب الآخر حاييم وايزمان نجح في الحصول على الدعم البريطاني حيث منحته بريطانيا الدولة العظمى في ذلك الزمان وعد بلفور الخبيث.
الحركة الصهيونية التي قادها هرتزل وضعت لنفسها أهدافها واضحة منذ نشأتها وأهمها (إقامة وطن لليهود في الأرض العربية - فلسطين) التي عاش فيها العرب على مدى أكثر من 5000 عام.
ومن يدقق في خيوط السياسة الإسرائيلية يرى بوضوح أنها تعتمد على تأجير مفهوم المصلحة إلى سياسة سلطوية عنصرية توسعية على حساب أراضي غيرها وكأنها تطبق المزج بين السياسة والمصلحة، ولا غاية أخرى لها غير تلك الغاية.
إسرائيل وقادتها لا يعيشون هذا الزمن، زمن القانون الدولي، الأمم المتحدة ومجلس أمنها، إنما تعيش عصر القرنين السابع والثامن عشر، بعد انتهاء الحروب الدينية وأسوأها حرب الثلاثين عاما لتذوق أوروبا بعدها رائحة السلم طبقا (لمعاهدة ويستفاليا) التي نصت على سيادة أية دولة على اراضيها وحدودها وسكانها وثرواتها.
بل إن الدولة العبرية منذ تأسيسها تطبق مبدأ حروب التوسع، والحروب العرقية التي كانت سائدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبهذا فهي تطبق الأخذ بالمصلحة المطلقة من جانب واحد.
مصلحة إسرائيل تقوم على مبدأ (حق القوة لا على قوة الحق) لتعرض بالقوة معادلة جديدة في العلاقات الدولية.
هذا النهج الإسرائيلي معناه أن القوة والحق تتم بأعمال مبدأ القوة لا بأي مبدأ آخر غيره، وهذه هي سياسة إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948 حتى اليوم وسيبقى مشروعها من النهر إلى البحر حيا ما لم يصبه المرض ويموت أو يقتل.
الحركة الصهيونية نجحت في الحصول على وعد بلفور ففي مدينة مانشستر البريطانية التقى وايزمان بآرثر بلفور وهو من المتحمسين لمشروع اتخاذ يوغندا وطنا لليهود، لكن وايزمان الخبيث الذي ربطته صداقة قوية مع بلفور الماكر قبل أن يصبح وزيرا استطاع أن يكسب تأييده إلى جانب فكرته قيام الوطن القومي لليهود في فلسطين.
وما بين 1917 تاريخ صدور الوعد 1947 عام التقسيم استطاع اليهود تحويل ورقة (صغيرة) خطط لها وايزمان وتلقفها (بنخوة) بريطانية استعمارية بلفور لتتبناها دولته التي كانت لا تغيب عنها الشمس (بقوتها) لتفرضها على شعب وأرضه لا تملك فيه حقا قانونيا، أو حتى ذرة رمل واحدة، ولكن هذا هو دور الاستعمار لعبه في معظم الديار العربية في تلك الفترة من التاريخ.
المهم أن اليهود استطاعوا استغلال تلك (القصاصة) من الورق الصادرة من الدولة الظالمة ليحققوا حلمهم بإقامة إسرائيل عام 1948 لتصبح أول دولة في التاريخ الإنساني تنشأ على أرض الغير.
وبعد مرور 100 عام على وعد بلفور وتأسيس هذا الكيان العنصري في قلب الأرض العربية ابتلع معظم الأراضي الفلسطينية وبعض الأراضي العربية وشن عليهم عدة حروب مدمرة.
إذا عقيدة إسرائيل استعمال القوة للتوسع والاحتلال، فمنذ عام 1948 وهي تصول وتجول، احتلالها لفلسطين كان البداية، وسجل التاريخ العسكري والسياسي عدوانها على مصر عام 1956 ومعها كل من بريطانيا وفرنسا وردت هذه الدول على أعقابها.
لكنها لم تتوقف عند هذا الحد العدواني، ففي عام 1967 شنت حربا أكبر على مصر والأردن وسوريا (بالقوة) تبعت ذلك بحرب 1973 التي كانت عبر ودروس للدولة العبرية بعد أن تلقت هزيمة فادحة كان بطلها الملك فيصل والرئيس السادات رحمهما الله لتخرج من رحم تلك الحرب التاريخية استعادة مصر لجميع أراضيها المحتلة.
وقد استمرت إسرائيل في مخططها الرهيب لتستولي على الجنوب اللبناني، ثم حربها في أغسطس عام 2006 على ذلك البلد العربي.
وتأبى الأيام الأخيرة من عام 2023 الرحيل قبل أن تحدث فاجعة كبرى على أرض فلسطين، المحرقة الرهيبة التي خطط لها بحقد دفين ووحشية بدهاء يهودي ليس جديداً.
إن ما فعلته إسرائيل بشعب غزة الأعزل كان مجزرة، بل كان إبادة جماعية بكل المقاييس، ورغم ما فعلته وما ارتكبته من مجازر في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وجنين وقانا والقدس وغيرها، إلا أن ما فعلته في غزة كان الأبشع والأكثر دموية، والمستقبل حبلى بنكبات أشد وأمر!!
حولت طائرات أف 16 والأباتشي والصواريخ الأمريكية والسفن الحربية غزة إلى جحيم على سكانها 2.2 مليون نسمة، عشرات الآلاف من القتلى سالت دماؤهم في الشوارع وتناثرت جثثهم على الأرض، ومنظر الجرحى بعددهم الكبير من النساء والأطفال والشيوخ وهم يئنون ويصرخون ولا يجدون من يسعفهم.
لقد امتلأت النفوس من تلك المشاهد بخليط من المشاعر القاسية الحارقة، امتلأت بالحزن والأسى والغيظ.
ورجل البيت الأبيض بايدن أخذ على نفسه ألا يغادر المكتب البيضاوي إلا على دماء أهل غزة الطاهرة.
أما الدولة الفلسطينية التي وعد بها مراراً وتكراراً فهي ليست أكثر من ذر للرماد في العيون وإن كان البعض قد علق على ذلك الحلم آمالا عريضة فقد ذهبت تلك الأحلام أدراج الرياح!! وستتوارى أكثر في عهد الرئيس الجديد السيد ترامب.
والمجرم الجزار نتنياهو كان يعلن كذبا أنه سيكون رجل السلام الذي سيدشنه فقد أبى إلا أن يشن حربه السوداء على بحر من دماء الفلسطينيين بإشارة من عمه الأكبر بايدن، فكان أهل غزة والضفة الضحية الكبرى لهؤلاء الجلادين الذين خنعوا أمام كوريا وإيران لقوتهما وأجهزوا على أهل فلسطين.
استخدمت الأسلحة المحرمة دوليا وارتكبت جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية ضد الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال وغيرهم الذين قتلتهم إسرائيل بدم أبرد من الثلج.
كل هذه الجرائم ضد الإنسانية والتي لا تقل بشاعة عن كل من هيروشيما وناغازاكي، حدثت وتحدث على ارض فلسطين والقدس دون أن نسمع كلمة عدل واحدة لرفع الظلم عن المظلومين والمقهورين والمضطهدين.
وغزة وعلى مدى أكثر من عام تتعرض لجرائم إسرائيل قتلا وتشريدا ولحق بها لبنان منذ شهور ليلقى نفس المصير في ظل موقف متخاذل للمجتمع الدولي متفرجا على جرائم الحرب الإسرائيلية في كل من غزة ولبنان.
فالمجتمع الدولي أثبت تقاعسه، بل إنه يعد متواطئا وداعما لإسرائيل، وفي مقدمته أمريكا ودول في الغرب تدعم إسرائيل بالمال والسلاح والتغطية على جرائمها وحمايتها، وسيستمر بعدم الوقوف مع الحق والعدل للاضطلاع بمسئولياته لوقف العدوان الهمجي الإسرائيلي على فلسطين ولبنان، وهذا التخاذل يجعل المنطقة تتعرض لحالة خطيرة ويهدد الاستقرار والسلم الإقليمي والدولي.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة