مصطفى محمد أبو السعود
لكل بناء أعمدة يرتكز عليها حتى يستوي البناء على سوقه، لذا تحرص الدولة أو الجماعة أن تكون الأعمدة قوية لتؤدي رسالتها، أهمها منع البناء من الانهيار.
ما ينطبق على الأبنية ينطبق على المجتمعات البشرية، فكما أن لكل بناء أعمدة خرسانية تسند الجدران، فإن لكل مجتمع بشري شخصيات بشرية تسند الجماهير عليها ظهرها لتحميها من تقلبات دهرها، حتى لا يُحدِث غياب الأعمدة البشرية خللاً في الجماهير، لأن هذا الخلل إن حدث، إما يستمر فتتهاوى الجماهير، وإما أن تتداركه الجماهير فتولي وجهها شطر عمود بشري آخر تلتف حوله لتستمر مسيرة الحياة.
في حالتنا الفلسطينية وصراعنا مع الاحتلال منذ النكبة نلحظ أن الاحتلال عمد إلى استهداف الأعمدة البشرية في كافة المجالات، إما بالإبعاد أو الاغتيال الجسدي أو المعنوي أو الاعتقال ظناً منه أن تلك الاستهدافات ستبرد نار الثورة في صدور الجماهير.
وقفزاً على مراحل زمنية كثيرة ووصولاً لمرحلة العدوان الصهيوني على غزة منذ أكتوبر 2023 نجده استهدف كفاءات من مختلف القطاعات كالمعلمين والأطباء والمهندسين والأكاديميين والصحفيين ورجال المال والأعمال والقانونين، والمنشدين والكتاب والمؤثرين على مواقع التواصل، رغم أن طبيعة عملها ذات طابع مدني خدماتي بعيداً عن الجانب العسكري.
على سبيل المثال لو تطرقنا لفئة التعليم، فكلنا نعلم أن التعليم هو أحد أهم أعمدة بناء الذات والمجتمع، والمعلمون هم الفئة الوحيدة القادرة على نقل المجتمع من وضعية سيئة إلى أفضل، وإن غياب المعلم الجيد يعني دمار التعليم، ودمار التعليم يعني ضياع المجتمع، ودخوله في براثن التخلف والرجعية، لذا تسعى الدول لبناء معلم قوي.
فقد قتل الاحتلال أكثر من 100 شخصية فلسطينية أكاديمية، بدءاً من رئيس الجامعة الإسلامية مروراً برؤساء أقسام وعمداء كليات وباحثين مميزين في مختلف المجالات العلمية، منهم من حاز على جوائز دولية، كما بلغ عدد الطلبة الذين قتلهم الاحتلال أكثر من 10 آلاف طالب من مختلف المستويات الدراسية، وهذا يؤكد أن الاحتلال ينظر لأطفال فلسطين على أنهم نواة النصر والتحرير، لذا يقتلهم.
وقد زاد عدد المؤسسات التي دمرها الاحتلال على 100 ما بين جامعة وكلية ومدرسة ومعهد ورياض أطفال، وهنا يؤكد الاحتلال أنه راغب بتعطيل الحياة التعليمية في غزة لسنوات طوال.
إن هذا الاجرام الصهيوني بحق الكفاءات الفلسطينية، وخاصة التعليم يؤكد رغبة الاحتلال في التخلص من العقول العلمية في الشعب الفلسطيني، ويعطي دلالة واضحة أن دولة الاحتلال لا ترغب برؤية أحد يشاطرها التفوق والتميز في المجال الأكاديمي؛ لأن ذلك يشكل خطراً عليها، وتريده أن يبقى دوماً يفكر في همومه المعيشية اليومية من مأكل ومشرب وملبس.
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي سفن العدو، فكل الشعوب التي تسعى للتحرر تدرك أن ضريبة التحرير عالية، ولسان حالها يردد « دفعنا ضريبة التحرير من دمنا والناس تزعم أن النصر مجاناً».
لذا سرعان ما تنهض الأجيال الجديدة لحمل راية الأجيال السابقة وتقود شراع سفينة الوطن إلى بر الأمان، وشعارها «يد تبني ويد تقاوم».