عبدالله العولقي
ما يعجبني في شخصية الدكتور محمد الرميحي مجموعة من سمات التميز الثقافي التي يتميز بها عن سواه من المثقفين، وسأحاول في هذا المقال أن أتناول هذه السمات حسب تفاعلي الطويل مع لقاءاته ومقالاته وأطروحاته التي يقدمها للمتلقي طيلة العقود الماضية، وقبل ذلك لا بد من الإشارة إلى أن الدكتور الرميحي قد تخرج في عام 1973م من جامعة درهام Durham شمال شرق بريطانيا من خلال أطروحة دكتوراها وسمها بعنوان: التغير السياسي والاجتماعي في البحرين بين عامي (1902م - 1970م)، وقد نشرت حينها باللغة الإنجليزية ثم ترجمت لاحقاً للغة العربية، وهي رسالة قيمة جداً وقد طبعت أكثر من طبعة، وقد أشرت إليها هنا في المقدمة لأنها ذات قيمة تاريخية كونها قد تحولت مع مرور الوقت إلى مادة كلاسيكية في التعليم السياسي والتاريخي لدى الجامعات الخليجية والعربية.
أذكر أول مرة تعرفت بها إلى الدكتور الرميحي كانت في أواخر ثمانينيات القرن الماضي عندما كنت ألاحظ اهتمام والدي رحمه الله تعالى بافتتاحية مجلة العربي الكويتية الشهيرة والتي كان يكتبها الرميحي بكل براعة واقتدار، فقد رأس مجلة العربي لمدة 17 عاماً وربما كان هو الأشهر بين رؤساء تحريرها الكويتيين، وقد شغل بعدها منصب الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والآداب في الكويت خلال الفترة (1998م – 20003م)، وهنا لا بد للإشارة إلى مهارات الرميحي الإدارية وبراعته الذاتية في إحداث النقلة النوعية للمنشآت الثقافية التي يعمل بها، فأثناء رئاسته لمجلة العربي استقطب للكتابة في المجلة أشهر الأعلام العرب والرواد في الثقافة والعلوم حتى أصبحت أيقونة ثقافية لا تخلو من أي بيت عربي من الخليج إلى المحيط.
أعود إلى ما تحدثت عنه في بداية المقال حول السمات التي يتميز بها الدكتور الرميحي عن سواه من المثقفين الخليجيين والتي جعلته يتبوأ هذه المنزلة السامية في فضاء الثقافة العربية، فمن وجهة نظري أن الرميحي قد نجح في الانفلات من قيود الأديولوجيا والأطر الثقافية الخانقة للمثقف والتي كانت سائدة في مصر والشام والعراق ووقع في أسرها بعض المثقفين الخليجيين، فربما وعى الرميحي مبكراً أبعاد ومآلات تلك الأديولوجيات المختلفة وظل مثالاً لإخلاص المثقف الوطني الخليجي لبلده وأمته ببعديها العربي والإسلامي بعيداً عن الترهات والقيود الثقافية.
السمة الثانية أصالته في الكتابة، هذه الأصالة جعلت الأستاذ الرميحي في مقدمة الكتاب والمثقفين العرب، فهو قارئ ذكي للأحداث العربية والمتغيرات العالمية ويرصد التحولات الواقعة ببراعة شديدة، ولهذا نجد أن كتبه التي كتبها حول الخليج والمنطقة العربية لا تزال مراجع مهمة في المكتبات العربية وربما العالمية، بل إنك قد تعود إلى مقالاته المبكرة في مجلة العربي وتجد فيها من الفائدة التي تفهم من خلالها المتغيرات الواقعة اليوم في المنطقة، بمعنى أن مقالاته غير مقيدة بالظرف الزمني لها نتيجة أنها تتسم بالأصالة والموضوعية وبعيدة كما قلنا عن ملوثات الأطر الأديولوجية التي تجعلها صالحة للقراءة تحت رهن ظرفها الزمني فقط.
السمة الثالثة الشمول والموسوعية، فالدكتور الرميحي قارئ نهم للكتب التاريخية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية مما جعله مثقفاً شاملاً وكاتباً موسوعياً رائعاً، فهو يكتب في كل هذه المجالات المتنوعة وعن وعي وإدراك لها، وأحياناً تأتي بعض مقالاته مزيجاً رائعاً بين السياسة والاقتصاد أو بين السياسة والثقافة وأحياناً بينها كله، وهذه السمة لا تتوفر إلا عند الكتاب الموسوعيين الكبار.
السمة الرابعة لغته السهلة، فهو يكتب بلغة يقرأها المتخصص في الجامعة أو التعليم الأكاديمي كما يقرأها الشخص العادي على حد سواء، فهو يبتعد عن التعقيدات اللغوية والتقعر في جلب المصطلحات العلمية أمام المتلقي، فتجد كتاباته تتسم بمنهجية السهل الممتنع، وربما أن الدكتور الرميحي قد اكتسب كل هذه المهارات من معاناته الطويلة مع الكتابة وتجربته العميقة مع أصناف القراء والمتلقين.
السمة الخامسة شجاعته في تقديم وجهة نظره، لكن هذه الشجاعة تتسم بالعقلانية والحصافة دون الوقوع في وحل الصدامات الثقافية، بمعنى أنه لا يحرص على مواجهة مخالفيه والمناوئين لأفكاره وأطروحاته والصدام المباشر معهم بقدر ما يحرص على تقديم طرحه للمتلقي، وهذه السمة حقيقة أكسبته احترام الجميع، فهو يجتهد في تقديم التحليل السياسي والاقتصادي للإشكالية من وجهة نظره دون أن يهاجم سواه من المخالفين، وقد لفت نظري في حسابه التويتري شعاره الذي نص بتقديم نصيحته للآخرين بقوله: كن شجاعاً واستخدم عقلك، وربما أنه قدم هذه النصيحة بعد تجربته الطويلة في الفضاء الثقافي العربي ووجد أن كثيراً من طاقات الشباب المهدرة تذهب سدى بعد أن تقع في فخ الأديولوجيا والأطر الثقافية المقيدة لحرية التفكير والتي تهيمن على العقل وتسيطر على سلوكه دون أن يعلم صاحبه.
السمة السادسة هي حمله لهم القضايا الخليجية، وأعتقد أن هذه السمة هي مشروعه الذي تبناه منذ بداياته الأكاديمية والثقافية، ولعل هذه السمة تلوح للقارئ مباشرة من عناوين الكتب التي ألفها عن فهم عميق لواقع المجتمعات الخليجية، فمن أهم مؤلفاته التي أثرت المكتبة العربية: قضايا خليجية، الخليج ليس نفطاً، الكويت العمران والتنمية، البحرين ومشكلة التغيير السياسي والاجتماعي، النفط والعلاقات الدولية، البترول والتغيير الاجتماعي، معوقات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلدان الخليج العربي، فتجد القاسم المشترك بين كل هذه العناوين هو موضوع الخليج العربي الذي حمل همه الدكتور الرميحي مبكراً وجعله مشروعه الثقافي لمدة نصف قرن تقريباً.
وفي الختام،، يرى الدكتور محمد الرميحي أن الثقافة المعرفية عموماً ترتكز على ثلاثة أسس مهمة، المعرفة العلمية ومهارة القدرة على التواصل مع المجتمع، وأخيراً الموقف الإيجابي مع الحياة أي قدرة المثقف على فهم قصوره مهما بلغت قيمته العلمية والثقافية، ولذا نجده دائماً يدعو المثقفين إلى التواضع والتعلم مدى الحياة، فبدون هذه الأسس لا يمكن أن تتشكل الثقافة المعرفية في أي مجتمع بل تظل ثقافة هامشية غير مؤثرة أو فاعلة بالطريقة الإيجابية،، وهكذا كان الدكتور محمد الرميحي مثقفاً فاعلاً في مجتمعه الخليجي والعربي، وعلامة مهمة في تاريخ الفكر العربي الحديث.