د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
من أوضح أمثلة هذا الأمر تقريرهم أن أسماء الله وصفاته لا تصغر، فأنكروا قول من قال (مُهَيْمِن) مصغر؛ إذ «لما بلغ أبَا العباسِ ثَعْلَبًا هذا القولُ أنكرَهُ أشدَّ إنْكَارٍ، وأنحى على ابن قُتَيْبَة، وكتب إليه: أنِ اتَّقِ الله فإن هذا كُفرٌ أوْ ما أشبههُ، لأنَّ أسماءَ الله تعالى لا تُصَغَّر، وكذلك كل اسمٍ مُعَظَّم، شَرْعًا»(1).
ومن ذلك تفضيلهم (يعلم، والعالم) على (يعقل والعاقل)، قال السهيلي «وكذلك قولهم (سبحان ما يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ)، لأنَّ الرعد صوت عظيم من جرم عظيم، فالمسبَّح به لا محالة أعظم، واستحقاقه للتسبيح من حيثُ سبّحته العظيمات من خلقه، لا من حيث كان يعلم. ولا نقول: (يعقل) في هذا الموضع، تأدبًا وتأسِّيًا بالشريعة»(2). وقال الأُشموني «(الَّذِي) للمفرد المذكر، عاقلًا كان أو غيره»(3)، فعلق الصبان «قوله: (عاقلًا كان) الأولى (عالِمًا) لإطلاقه عليه تعالى بخلاف العاقل»(4).
ويتحرج السهيلي من إطلاق لفظ النعت، قال «وأما صفات الباري سبحانه فلا نرى أن نسميها نعوتًا، تحرُّجًا من إطلاق هذا اللفظ، لعدم وجوده في الكتاب والسنة. وقد وجدنا لفظ الصفة في الصحيح، حتى قال عليه السلام للرجل الذي كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في كل ركعة: لم تفعل؟ فقال: أحبها لأنها صفة الرحمن»(5).
ومن ذلك تسمية فعل الدعاء، قال ابن هشام «فعلُ الأمرِ إذا كانَ مِن العبد إلى الله تعالى؛ سُمِّيَ فعلَ دعاءٍ؛ تأدُّبًا مع اللهِ؛ إذ لا يَتوجَّهُ الأمرُ مِنَ العبدِ إلى خالقِه عز وجل»(6).
والمبني للمفعول يحذف له الفاعل ومن علل الحذف تجنب اجتماع الفاعل والمفعول، قال الزركشي «وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُؤْمِنِي الْجِنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا} فَحُذِفَ الْفَاعِلُ فِي إِرَادَةِ الشَّرِّ تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ وَأَضَافُوا إِرَادَةَ الرَّشَدِ إِلَيْهِ» (7).
ومن ذلك أنهم يعبرون عند الإعراب بقولهم (لفظ الجلالة)، قال أبو حيان عن إعراب (نشدتك اللهَ): «ولفظ الجلالة منصوب على إسقاط الخافض، ولذلك يجوز التصريح بالخافض تقول: نشدتك بالله أي سألتك بالله، وليس منصوبًا على المفعول»(8). وقال ابن هشام «وَمثله {لَكِن هُوَ الله رَبِّي} إِذْ الأَصْل لَكِن أَنا هُوَ الله رَبِّي، فَفِيهَا أَيْضا ثَلَاثَة مبتدآت إِذا لم يقدر هُوَ ضميرًا لَهُ سُبْحَانَهُ، وَلَفظ الْجَلالَة بدل مِنْهُ أَو عطف بَيَان عَلَيْهِ»(9). قال ناظر الجيش «تعميرَكَ اللهَ، انتصب (تعميرَكَ) ولفظَ الجلالة على أنهما مفعولان، أي: سألت اللهَ تعميرَك، وقيل: (تعميرك) منصوب بـ(أسألك) ولفظ الجلالة منصوب بالمصدر وهو (عمر) بمعنى: تعمير»(10). وقال الأُشموني «فالحاصل أن الحرف [حرف النداء] يلزم في سبعة مواضع: المندوب، والمستغاث، والمتعجب منه، والمنادى البعيد، والمضمر، ولفظ الجلالة، واسم الجنس غير المعين»(11).
ويدخل في ذلك تفسير استعمال الفعل مسندًا إلى واحد وهو يقتضي فاعلين، قال القرطبي «و(قول جابر رضي الله عنه: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول: (إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام). كذا صحَّت الرواية: (حرَّم) مُسندًا إلى ضمير الواحد. وكان أصله: حَرَّما؛ لأنه تقدَّم اثنان، لكن تأدَّب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين؛ لأن هذا من نوع ما ردَّه على الخطيب الذي قال: ومن يعصهما فقد غوى. فقال له: (بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص اللهَ ورسولَه)»(12).
يعود ضمير الغَيبة إلى لفظ مصرّح به، وقد يستغنى عن اللفظ بحضور ما يدل عليه، ومثّل ابن مالك لذلك بقوله تعالى {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي}. قال أبو حيّان «وليس كما مثل به؛ لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما، فالضمير في (قال) عائد على (يوسف)، والضمير في (هي) عائد على قوله {بِأَهْلِكَ سُوَءًا}، ولما كنّتْ عن نفسها بقوله {بِأَهْلِكَ} ولم تقل (بي)، كنّى هو عنها بضمير الغَيبة في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي}، ولم يخاطبها بقوله (أنت راودتني)، ولا أشار إليها بقوله (هذه راودتنى). وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والاستحياء من الخطاب الذي لا يليق بالأنبياء، فأبرز الاسم في صورة الضمير الغائب تأدبًا مع الملك وحياءً منه»(13).
ومن ذلك تفسير الشرط في قول معلوم تحققه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]. قال الثعلبي «وقال ابن كيسان: قوله {لَتَدْخُلُنَّ} من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه، فأخبر الله تعالى، عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه قال ذلك، ولهذا استثنى تأدّبًا بأدب الله صلى الله عليه وسلم حيث قال له: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}(14).
العربية لغة علم وأدب.
______________
(1) الدر المصون للسمين الحلبي،4/ 288.
(2) نتائج الفكر للسهيلي، ص 183.
(3) شرح الأشموني لألفية ابن مالك، 1/ 127.
(4) حاشية الصبان على شرح الأشموني لألفية ابن مالك، 1/ 214.
(5) نتائج الفكر في النحو للسهيلي، ص: 205.
(6) قواعد الإعراب ونزهة الطلاب لابن هشام، ص50.
(7) البرهان في علوم القرآن للزركشي، 4/ 61.
(8) ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي، 4/ 1794.
(9) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام، ص: 497.
(10) تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد لناظر الجيش، 6/ 3078.
(11) شرح الأشموني لألفية ابن مالك، 3/ 20-21.
(12) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي، 4/ 461.
(13) التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل لأبي حيان، 2/ 253.