د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
مازالت رائحة حبر صفحات مجلة العربي عالقةً في ذهني، فهي النافذة الثقافية التي وَعيتُ وأعدادها تشغل مساحات واسعة من أرفف مكتبة سيدي الوالد الأستاذ الدكتور: عبدالعزيز بن محمد الفيصل -حفظه الله- الذي كان يحتفظ بأغلب أعدادها، فكنت كلما فرغت من قراءة كتابٍ من كتب مكتبته العامرة التي تربو على ستة آلاف كتاب اتجهت إلى عددٍ من أعداد المجلة التي كنت أُُرَوّح عن نفسي بها بعد قراءة أمهات الكتب، التي أنفق عليها الوقت والجهد، فلا أنفك عن مناقشة والدي عمَّا يرد فيها من أخبار وموضوعات متنوعة تتصل بالتاريخ والأدب واللغة، وكانت لي طريقة خاصة في القراءة، ربما تختلف عمَّا اعتاد عليه محبو الكتب، فكلما أشكل عليّ فهم بيت شعري، أو استيعاب نصٍّ نثري، دونت تعليقي عليه في ورقة خارجية حفاظًا على الكتاب واحترامًا لمقامه وتقيدًا بتعليمات والدي بعدم العبث بصفحات أي كتاب أدرسه، وكنت أراجع والدي وأناقشه في هذه التعليقات فأستفيد من علمه ورؤيته حيالها، وأدون تعليقه عليها.
عندما أتصفح صفحات مجلة العربي -آنذاك- لأطلع على محتواها الثقافي كنت أستغرب من جرأة الطرح فيها! ومن تطرقها لبعض الموضوعات التي لم نعتد على قراءتها في المجلات المحلية -آنذاك- وكنت أدون تعليقاتي على بعض ما يرد فيها؛ يدفعني لذلك عشقي للصحافة وتعلقي بها منذ صغري، فكان هذا السلوك الثقافي للمجلة يثير تساؤلاً عميقًا لدي وهو في آلية الموازنة بين الإثارة والثقافة وموقعهما من العمل الإعلامي؟ فمرت الأيام والسنون حتى تعرفّت على الأستاذ الدكتور: محمد بن غانم الرميحي، الذي كان يرأس تحرير هذه المجلة العريقة التي برزت مهمتها الفعّالة في صياغة كوامن الفكر، وإيقاظ السؤال الثقافي الذي اعتدنا على أن يكون زمامه مناطًا بالمجلات الثقافية في مصر ولبنان.
لقد استطاع محمد الرميحي أن يبني حالةً ثقافية خاصة، ليس في دولة الكويت الشقيقة وحدها التي تربطها بالمملكة روابط اجتماعية، وثقافية، واقتصادية، وعرقية، بل في عموم دول الخليج العربي، التي تعيش حالة فكرية متقاربة، وهذه المجتمعات الواعية جديرة بمن يُغذيها، ويشبع نهمها نحو الثقافة؛ ليُمَثِّل الرميحي ظاهرة ثقافية عامة في الكويت، وحالة فكرية منفردة على الصعيد العربي.
لقد كان أحد أبرز أسباب نجاح الرميحي في الجانبين الثقافي والاجتماعي قاعدته الأكاديمية العلمية، التي أكسبت إدارته الثقافية والإعلامية بُعدًا إيجابيًا، فهو أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة الكويت، فكانت محطته الأبرز عمله أمينًا عامًا لمجلس الشؤون الثقافية في الكويت، ولا تخفى أهمية الجانب العلمي في العمل الإعلامي وتـأثيره المباشر على ما يطرح في هذه الباحة المتغيرة.
قبل سنوات ومضَ في ذهني سؤال حول تصور قيادات العمل الثقافي لمفهوم (الثقافة)، وكنت قد رصدت تباينًا جزئيًا في النظرة لهذا المفهوم بين قيادات الإعلام الثقافي وأساطينه؛ حيث يرى بعض الأدباء أن الثقافة أكثر اتصالاً بالأدب منها إلى الشؤون الأخرى، وهذه كانت رؤية الدكتور: غازي القصيبي -رحمه الله- عندما سألته عن هذا المفهوم، بينما يرى الرميحي أنها قاطرة التنمية، وأنه لا يمكن أن توجد خطة تنموية في أي بلد من البلدان إلا وبجانبها خطة ثقافية، ومن خلال إجابته على تساؤلي أدركت أنه يفهم الثقافة بمعناها الواسع لتكون قرينة الوعي! وحديثه عن الثقافة فسّر لي أيضًا الآلية التي كان يدير بها مجلة العربي؛ مما كشف لي سبب نجاح هذه المنظومة الفكرية وتسنّمها للثقافة في الكويت، وقدرتها على التأثير في العالم العربي، فكانت ومازالت منارة ثقافية مضيئة.
نحتفي في هذا العدد من الجزيرة الثقافية بشخصية الأستاذ الدكتور: محمد بن غانم الرميحي، لنرصد شيئًا من إنجازاته الفكرية والثقافية، وهذا جزء من مسؤولية الإعلام الثقافي، وقد بذل زملائي جهدًا مباركًا في الإعداد لهذا الملف، وأخص منهم زميلي وأخي أ.علي القحطاني، وفي هذا المقام أشكر أستاذنا وربان سفينتنا أ.خالد المالك، فهو الداعم والمشجع، لكل إنجاز ثقافي تقوم به الثقافية.