رقية نبيل عبيد
هل أكون مجحفة إذا قلت إنني لا أحب أن يكتب أحد من هذا العصر الحديث عن الحياة الفكتورية الإنجليزية القديمة لإنجلترا القرن التاسع عشر؟، برغم أن ديكنز كان قد كتب عن الثورة الفرنسية التي تسبقه بكثير، وتولستوي كتب عن نابليون وهي حقبة أقدم من زمنه بعشرات السنين، لكن الكتابة العصرية الحديثة لا يمكن إخفاؤها إذا ما حاول أحد من عصرنا الحالي الكتابة عن الماضي، ولا شيء آخذه على القصة وحبكتها بحد ذاتها، لكن روح الحداثة لابد وأن تتسلل إلي الكلمات والحوارات ولُبّ الأبطال، ويمكنك أن تتبين الفارق بسهولة إذا ما قرأت لأهل القِدم حقيقة، وتبدو الفكاهة وردود الأفعال وتصرفات الشخصيات مشرّبة بروح القرن الحادي والعشرين، فلا النساء كنّ يضحكن هكذا ولا الرجال اعتادوا الممازحة المبالغة فيها هكذا!
حتى طرق الحب تبدو عصرية للغاية، فماذا نفهم نحن من الصبر والهدوء والرقة والدعة التي كان يتعامل بها أهل الماضي، في رواية فورستر الشهيرة «هواردز إند» تزوجت البطلة مارغريت رجلًا أرمل يكبرها بعشرين عامًا، ولو وِجد هذا الرجل في زماننا لنعتته النساء بشتى الأوصاف، ولحاز لقب الوغد بجدارة، لكن قلب مارغريت العطوف وثقتها الهائلة بنفسها وقدرتها على سبر أغوار أيًا كان جعلت من هذه الزيجة ركنًا متينًا وجنة واعدة، وصار الرجل الذي يعتبره الجميع صعب المراس أنانيًا صارمًا، صار يعبد زوجته الصغيرة، بل ولا يطيق ألا تُنفذ رغباتها والتي كانت دومًا تصب في مصلحة استقرار زواجهما ونموّه.
ماذا نفهم نحن أهل الحداثة من هذا؟ في الوقت الذي صار لابد للرجل فيه أن يكون مطيعًا هادئًا متفهمًا لرغبات زوجته متشرّبًا كل صفاتها متتبعًا لكل خطاها، وهكذا تفقد النساء قدرتهن التي حُزنَها منذ فجر الأبدية على نسج الحيل الصغيرة من وراء الكواليس، ويفقد الرجل أية هيبة قد تكون حوتها أبدًا الفطرة الطبيعية للرجال منذ خُلق الرجال.
هذه العصرية، هذه الحداثة هي لمسة لم أستطع ألا ألحظها طوال قراءتي لرواية الدوق وأنا لجوليا كرين، وكأني أرى تجمهرًا لشخوص من القرن الحادي والعشرين بأفكارهم وأفعالهم وبمفردات حديثهم وقناعاتهم يتلبسون بأزياء القرن التاسع عشر، وهذه الملابس هي العلاقة الوحيدة التي قد تربطهم بالماضي! وتحولت الرواية بين يدي سريعًا إلى واحدة من أحدث الروايات الرومنسية بكل عناصر الشد والجذب بين البطلين الواقعين في الحب.
وفاتني تمامًا أن أتحقق من تاريخ الرواية قبيل قراءتها، لكن لربما كان هذا خطئي، فقد كنت قد خرجت للتو من عالم فورستر، وإذا رأيتُ فستانًا فكتوريًا على غلاف رواية أخرى قفزتُ إليها مباشرة دون تردد، وبما أن فورستر كان قد تكفل بجعلي أعيش حقًا قلبًا وقالبًا في لندن القرن التاسع عشر وأطّلع على أحاديث القوم رجالًا ونساء، وأشاهد المجتمع يتفكك تحت اختلاف طبقاته واحتدام الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية منه، ثم إنه أشهدنا على زيجة حقيقية بكل ما قبلها وكل ما بعدها من مناوشات وحيرة وصدق وكذب، فإني وبعد كل هذا لم أكن جاهزة ألبتة لفتح مغاليق رواية الدوق، أو لخوض عباب رومانسية بهذه الهشاشة الحديثة!
ورغمًا عني انتابني شعور خفيف بالغضب، وكأن هذي الرواية استهانت بحضرة الماضي وغموضه وهيبته وأسراره الدفينة البعيدة، وكأنها أهانت ذكرى الأموات الذين ملأوا الدنيا في زمنهم وشغلوا بها وشغلت بهم، فالحقيقة أنهم كانوا أحياء بقدرنا تمامًا، وزمنهم الذي هو تاريخ سحيق بالنسبة لنا كان العصر الأشد حداثة وجِدة يومها، وحتى أكثر أفكارهم تطرفًا وغرابة كانت من شأنها أن تبدو طبيعية وملائمة للغاية في مكانها وزمنها المناسب، ومن حقهم، ومن حقنا نحن الأجيال التي تلتهم أن نراهم كما كانوا بالفعل وكما كَتب عنهم معاصروهم، أن نراهم بالعين التي رافقتهم حقيقة وشهدت ضحكاتهم وخذلانهم وأتراحهم وأفراحهم.