د. فواز كاسب العنزي
في عالم يتسم بالتغيرات السريعة والانفتاح الإعلامي، أصبحت الصحة النفسية محورًا رئيسيًا في حياة الأفراد والمجتمعات، وهي عنصر جوهري لتحقيق جودة الحياة. الإعلام اليوم ليس مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل هو قوة فاعلة تشكل الوعي العام وتوجه السلوكيات، وهو أداة يمكن استخدامها لتعزيز الصحة النفسية أو التأثير عليها سلبًا.
في ظل رؤية المملكة العربية السعودية 2030، التي جعلت الإنسان محورًا للتنمية، برزت أهمية الإعلام في تحقيق الأهداف الطموحة التي تسعى إلى بناء مجتمع حيوي ومزدهر. الصحة النفسية هي جزء لا يتجزأ من هذه الرؤية، حيث تسعى المملكة إلى تمكين الأفراد من تحقيق توازنهم النفسي والاجتماعي من خلال مبادرات مثل برنامج جودة الحياة. هذا البرنامج يُجسد التزام المملكة بتحسين مستوى المعيشة وتعزيز الرفاهية، وهو ما يجعل الإعلام أداة رئيسية في تحقيق هذا الهدف.
مع تصاعد التحولات في الفضاء السيبراني، أصبح الإعلام الرقمي حاضرًا بقوة في حياة الجميع، يؤثر في تشكيل الهوية والوعي الجمعي بطرق غير مسبوقة. هذا الفضاء، رغم ما يقدمه من فرص، يحمل تحديات كبيرة؛ إذ يوفر بيئة خصبة للمعلومات المضللة، والممارسات التي تؤثر سلبًا على الصحة النفسية. في هذا السياق، برزت الحاجة إلى إعلام وطني ملتزم يعزز الهوية الوطنية، ويستخدم الفضاء السيبراني كمنصة لترسيخ القيم الإيجابية، وبناء مجتمع قوي يدرك أهمية الحفاظ على هويته في ظل العولمة الرقمية.
الإعلام، بجميع أشكاله، يمتلك قدرة غير محدودة على التأثير، إنه المرآة التي تعكس واقع المجتمع، والمنبر الذي ينقل صوته، والعقل الذي يصيغ تصورات الأفراد عن أنفسهم وحياتهم، ولكن مع هذه القوة، تأتي مسؤولية عظيمة. الإعلام الملتزم يساهم في كسر وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية، ويفتح الأبواب أمام الناس للتحدث عن مشكلاتهم النفسية دون خوف أو تردد، مما يؤدي إلى بناء مجتمع أكثر تقبلًا ودعمًا.
ورغم ذلك، لا يخلو المشهد من تحديات خطيرة في عصر السوشيال ميديا، حيث يمكن لأي شخص أن يصبح «خبيرًا»، برزت ظاهرة مدّعي العلم في الصحة النفسية. هؤلاء الأشخاص يروجون لمعلومات مغلوطة ويقدمون نصائح قد تكون ضارة. في مواجهة هذا الخطر، يتحتم على الإعلام الحقيقي أن يكون الدرع الواقي للمجتمع، يكشف الزيف ويرشد الأفراد نحو المصادر الموثوقة.
إن الإعلام الوطني الملتزم اليوم يقف أمام مسؤولية مزدوجة: حماية الصحة النفسية وتعزيز الهوية الوطنية من خلال استخدام الفضاء السيبراني بشكل مدروس، يمكن للإعلام أن يصبح أداة فعالة لزرع القيم الوطنية، ونشر محتوى يعزز الانتماء، ويربط بين تحقيق الصحة النفسية واعتزاز الأفراد بهويتهم الوطنية.
الإعلام، إذا استخدم بوعي واحترافية، يمكن أن يكون القوة التي تحفز الأفراد والمجتمعات على تحقيق تطلعاتهم النفسية والاجتماعية من خلال نشر محتوى علمي موثوق، وإبراز القصص الملهمة، وتعزيز ثقافة الاهتمام بالصحة النفسية، يصبح الإعلام شريكًا رئيسيًا في تحقيق رؤية المملكة 2030 وأهداف التنمية المستدامة، خاصة تلك المتعلقة بالصحة الجيدة والرفاه.
إن العالم اليوم يقف على مفترق طرق، حيث يمكن للإعلام أن يكون الحافز للتغيير الإيجابي أو الوسيلة لتعميق الأزمات. دورنا هو استخدام الإعلام كأداة للارتقاء بالمجتمع، وضمان أن تكون رسائله مصدر إلهام ودعم، تساهم في بناء مجتمع قوي نفسيًا ومتماسك وطنيًا. بهذا يمكننا أن نبني وطنًا يتجاوز التحديات الرقمية ويصنع مستقبلاً مشرقًا لأجياله القادمة.