لا بد لمستقرئ الفلسفة العربية والباحث في جذور تبلورها في الحقل الإنساني العربي من الوقوف طويلًا عند فيلسوف المعرّة أبي العلاء المعرّي (ت449هـ/1057م)، رهين المحبسين وفيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة، أبو العلاء صاحب فلسفة العقل وعقل الفلسفة، الفيلسوف الذي أبرز لنا في مأثوره من شعر ونثر أهمية العقل وسيطرته على الفكر والتفكّر والتأمل في هذه الحياة، فالعقل عند المعرّي هو كل شيء أو هو موجود في كل شيء، ذلك هو المعرّي الذي انعزل في محابسه يتفكّر ويكتب ويبدع في عوالم فكرية عقلانية مصرّحًا بأن لا إمام في هذا العالم سوى العقل:
كَذَبَ الظَّنُّ لا إِمام سوى الـ
عَقلِ مُشيرًا في صبحِهِ والمساءِ
فبالعقل يُكرم الإنسان ويرتفع، وتصفو نظرته للحياة وللعالم ولكل شيء، فهو نعمة كبرى لا تضاهيها نعمة، يقول أبو العلاء:
أيها الغِرُّ إن خُصِصْتَ بعَقلٍ
فَاِسْأَلْنَهُ فَكُلُّ عَقلٍ نَبِيُّ
فالعقل عند المعرّي كافٍ في الإخبار والدلالة والإنباء والتوجيه الصحيح لصاحبه في مواقف هذه الحياة المختلفة وتصوراتها، وهو الذي يأمر وينهى صاحبه في تصرفاته وفي أخلاقه وطباعه، يقول المعرّي:
لنا طِباعٌ وَجَدْنا العَقلَ يأمُرُهَا
فلا تُريدُ من الأخلاقِ ما حَسُنَا
ويرى أبو العلاء أن العقل مصباح منير في عالم الحياة، ومُرشد في كثير من دروبها يهتدي به صاحبه إلى الطريق الصحيح، يقول مخاطبًا الروح:
تركتِ مصباحَ عقلٍ ما اهتديتِ بِهِ
واللهٌ أعطاكِ من نورِ الحجى قَبَسَا
ومن خلال العقل نثر لنا المعرّي الكثير من فرائد فلسفته ونظرته للحياة والعالم وثنائية الحياة والموت وثنائية الخير والشر في النفس البشرية، وغاص في أعماق النفس مسترشدًا بالعقل ليُخرج لنا دررًا من حكمته وفلسفته ونظرته للعالم كله.
قاد عقل المعرّي فلسفته التي وصل في أحد جوانبها إلى الشك والسخرية من الإنسان وحياته وشرّه المستطير في هذه الحياة، فأكّد على أن الإنسان هو مصدر الشر والخير، بل قال إن الإنسان «شرّير بطبيعته»، وهي فكرة أكد عليها بعده بأكثر من ستة قرون صاحب الفلسفة السياسية الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز» (ت1679م) الذي قال بدوره: «إن الإنسان ذئب»، وقد سبقه على هذه الفكرة المعرّي بأكثر من ست مئة سنة!
ومن خلال عقله انتقد المعرّي الكثير من الظواهر الإنسانية، وضرب المعرّي بسيفه – متسلحًا بالعقل – الكثير من الأوهام في هذه الحياة، وتناول من خلال استضاءته بهذا العقل التنويري حقيقة الإنسان وحقائق الخير والشر والحياة والموت والدنيا والآخرة كما في «رسالة الغفران» ومقدمة «رسالة الملائكة» وغيرها من التأملات في عوالم الحياة بتفاصيلها العميقة والدقيقة والمختلفة. وقال المعرّي بأن مصدر الخير هو العقل ومصدر الشر هو الطبيعة الإنسانية، يقول:
ألم تَرَ أنَّ الخيرَ يَكسِبُهُ الحِجَى
طريفًا وأنَّ الشرَّ في الطبعِ مُتْلَدُ
أثرى أبو العلاء المعري في فلسفته العقلية حقول الفلسفة والإبداع الأدبي لمن جاء بعده، ولا زلنا ننبهر مما سطّره لنا في مؤلفاته المختلفة التي تنمّ عن عقلٍ مستنير وحكمه وإنسانية كبرى، ولا زال الباحثون عاكفين على فرائده حتى يومنا هذا، بحثًا ودراسةً وتناقلًا وإعجابًا واستدلالًا.
** **
د. ساير الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد