د.محمد بن عبدالرحمن البشر
السخاء من صفة العرب منذ أن تم تسطير التاريخ على ما هو متاح من أدوات، سواء على الحجر أو الجلود، أو أوراق الشجر المعاملة، وسطر الشعر والنثر والقصص المنقولة مشافهة ما قبل التاريخ زاداً آخر زاد في التأكيد على هذه الصفة الموروثة منذ القدم، عند العرب، والتي ظلت مزروعة في الجينات حتى يومنا هذا، وحتى نكون واقعيين فإن الكثير من القصص المروية في أغلبها قد تكون صحيحة، لكن لن تخلو من مبالغات، واختلاقات صنعها الرواة لإمتاع المستمع أو القارئ، أو لغرض مدح القبيلة وشيوخها، وقد تكون تقرباً لنيل نوال وعطاء من حاكم، أو خوفاً من آخر، ومثل ذلك نجده في القصص الواقعية مع شيء من المبالغة، أو تلك المختلقة في زماننا هذا، والمتاحة في وسائل التواصل الاجتماعي، لجذب المزيد من المتابعين الذي يؤدي إلى سعة في المال والشهرة.
سطرت لنا كتب التاريخ كثيراً من القصص التي تحكي ما فعله الكرماء، والشعر العربي يطربنا بجمال نسجه وقافيته وموسيقاه، وأمتعنا بما حمل من إبراز السخاء مع مبالغة تزيده ملاحة ومتعة.
ابن جدعان يقول:
إِنِّي وَإِن لم ينل مَالِي مدى خلقي
وهاب مَا ملكت كفاي من مَال
لَا أحبس المَال إِلَّا ريث أتْلفه
وَلَا تغيرني حَال إِلَى حَال
هذا شاعر يمدح نفسه، ربما لإبراز ملكة شعره، وإلا فإن المعنى لو أخذ بظاهره فإنه لا يتفق مع المنطق.
ومن قصص هذا الشاعر قصة جميلة شيقة، فعندما كبر أخذ قومه بنو تيم عليه ومنعوه أن يعطي شيئاً من ماله، فكان الرجل إذا أتاه يطلب منه شيئاً، قال له: ادن مني، فإذا دنا منه لطمه ثم قال: اذهب فاطلب لطمتك بما يرضيك، فترضيه بنو تيم من ماله. قصة جميلة وحيلة جليلة، ولطمة بمال، وكرم في كل حال. ولهذا فقد قال فيه الشاعر ابن قيس الرقيات:
وَالَّذي إِن أَشارَ نَحوَكَ لَطماً
تَبِعَ اللَطمَ نائِلٌ وَعَطاءُ
باع أعرابي ناقة له من مالك ابن أسماء، فلما صار المال في يده نظر إليها فذرفت عيناه، ثم قال:
وقد تَنزِعُ الحاجاتُ يا أمَّ مَعمَرٍ
كرائمَ مِن ربٍّ بهنّ ضَنينِ
فقال له مالك: خذ ناقتك وقد سوغتك الثمن، أي وهبته له، وبعد أن قرأت هذه القصة في كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، توقفت عندها وعجبت كثيراً مما وقع لي في الصين في قصة مماثلة لهذه القصة فسبحان الله، فقد ذهبت مع مجموعة كريمة أرسلهم رجل كريم لشراء بعض الإبل الصينية ذات السنامين، وغادرنا بكين في رحلة ممتعة جداً إلى منغوليا الداخلية، حيث يقطن هناك مجموعة من ملاك الإبل الصينيين، فتم اختيار العدد المطلوب، وكان المالك شيخ كبير والمفاوض ابنه، ومن ضمن تلك الإبل المختارة واحدة مميزة يحبها الشيخ العجوز، فتمت الصفة وتقرر السعر، ثم حدث جدل طويل بحدة بين الأب والابن، ورأيت الدمع يذرف من عيني الأب، فسألت الابن الذي كان منحرج من موقف والده، فقال إن أبي يحب هذه الناقة المميزة ولا يريد التخلي عنها لكن الحاجة سوف تجبره على ذلك، فقلت له على رسلك وقل لوالدك إننا سوف نتركها له وتتم الصفقة ونعطيه ثمن هذه الناقة المميزة أيضاً، فما كان من الشيخ إلا أن حضن ابنه وهو يبكي فرحاً، في منظر عاطفي عجيب.