د. محمد بن إبراهيم الملحم
هل يا ترى يوجد تدريس مُخيف؟ سؤال منطقي ولا أتردد في توقع أن أغلب الناس يجيبون بالنفي، بينما في الواقع هذا النوع من التدريس قد يوجد ويأخذ أشكالاً متنوعة بحسب الموقف والبيئة، فأول هذه الأشكال هو ما يحدث في الحصة التدريسية الأولى لدى كثير من المعلمين حينما يشكو من رهبة الموقف لأول مرة، وقد يستغرب بعض القراء من ذلك بيد أن هناك فعلا من يقعون في هذه الرهبة في أول دروسهم، وهي رهبة طبيعية يشكلها لديهم إحساسهم المرهف بالمسؤولية وبقيمة الوظيفة التدريسية التي هم مقبلون عليها، بينما غيرهم ممن لا يعطي لهذا الأمر قيمته الحقيقية ويستهتر بالوظيفة فإن رهبة الحصة الأولى لا تمثل لديه شيئا، ولا أقصد بهم أولئك الذين لديهم تدريب سابق أوحالات مشابهة للتدريس مما جعلهم على خبرة أو شبه خبرة بالموقف التدريسي ومن أمثالهم خطباء الجوامع، أو من توفرت لديهم فرصة متكررة للحديث أمام العامة في أي شأن من الشؤون فهؤلاء لا يعانون رهبة الحصة التدريسية الأولى كما يعانيها غيرهم مع توفر عامل القيمة والمسؤولية لديهم، عندما يصبح تدريس الحصص الأولى مخيفا، فإن هذا المعلم المستجد يحسب للموقف ألف حساب، ويفكر فيه طوال الأيام القلائل التي تسبق حصته الأولى، ولا شك أنه خوف يزول بمرور الوقت، وقد يطول وقد يقصر بحسب الظروف التي تتوفر لهذا المعلم من تدريب أو زميل يساعده على تخطي هذه الأزمة فيوفر له معلومات وطرقا واستراتيجيات تساعده على مواجهة هذا الموقف بطريقة سهلة.
التدريس المخيف الثاني يحصل لمعلم لديه خبرة، ولكنه وقع في براثن مدرسة لا تلقي للنظام بالاً أو تلك التي لا يمكن السيطرة بسهولة على طلابها وأولياء أمورهم مما يجعله رهن التهديد، وخاصة في المرحلة الثانوية وهو ما يحصل في أغلب الوقت في مدارس نائية أو بعيدة عن سيطرة الإدارات التعليمية وضبطها للنظام فيها، وكم سمعنا عن حوادث تهديد وإرهاب تعرض لها المعلمون ليس في بلدنا فقط وإنما حتى في بلدان أخرى وخاصة البلدان النامية حينما يكون الحصول على الشهادة هو هدف العملية التعليمية «الوحيد» وهو مرض ضار جدا للمجتمع والاقتصاد والازدهار الوطني، فلا شك أن التعليم يجب أن يعمل على تزويد المجتمع بمخرجات نوعية متميزة من الطلاب، وينجح في تحقيق أهداف المرحلة التي يدرسونها، وبالتالي تحقيق أهداف العملية التعليمية الحقيقية، بينما عندما يكون السعي الوحيد هو فقط للشهادة فإنك تتوقع كل أنواع الغش والسلوكيات غير المنضبطة التي قد تصل في أوجها إلى تهديد المعلم لتظهر حالة التدريس «المخيف» في هذا الإطار، وحينها تجد المعلم لا يستطيع أن يترك مهنته ومصدر رزقه وفي نفس الوقت غير قادر على التوفيق بين القيم التي يحملها والضغوط التي تمارس عليه من أجل إنجاح الطلاب دون وجه حق، ولذلك غالبا ما ينتهي به الأمر إلى التضحية بقيمه ومبادئه والتمشي مع ما تمليه عليه تلك الضغوط التي يجدها أقوى منه ومن المجتمع الصغير المحيط به حيث تقع تلك المدرسة.
التدريس المخيف الثالث هو ذلك الذي يحصل للمعلمين في بيئات غير مستقرة وغير آمنة تقع تحت ضغط الحروب أو المجاعات أو الأمراض أو الإرهاب كحالات يعيشها كثير من المعلمين في العالم سواء في عالمنا العربي أو الإسلامي أو لدى بعض الشعوب التي تعاني من التوترات السياسية والاجتماعية، وهنا يكون المعلم في حالة تهديد مستمر لحياته ولمستقبله. ومن الجدير بالذكر أن كل هذه الأنواع والأشكال تتضاعف شدتها إذا ما كان المعلم أنثى، فالمرأة بتكوينها الضعيف نفسيا وجسديا تواجه تهديدات صعبة أحيانا في التعامل مع المواقف التدريسية التي تتخللها ضغوط صعبة سواء من تلك التي تطرقنا إليها آنفا أو من ضغوط أخرى بحكم طبيعتها الأنثوية، ولا ننسى أيضا أن سفر المرأة أحيانا إلى مواقع بعيدة عن أهلها أو ربما إلى مواقع نائية أو حتى تلك الخطرة جغرافيا يشكل بعدا آخر من التهديد يجعل من المهنة من نوع التدريس المخيف. كل ما سبق يدعو إلى ضرورة العمل على توفير عنصر الأمان للمعلم والمعلمة في عملهم وتوفير كل ما يلزم لجعلهم في أحسن حال لأن عطاءهم البنائي للفرد لن يكون بدون درجة عالية من الشعور بالأمان، بدءا من التدريب لأول حصة وعدم استخدام نظرية إلقاء المعلم في البحر ليتعلم السباحة وانتهاء بتأمين الأمان التام لأي تهديد لحياته وممتلكاته قد يقع عليه من الطلاب أو أولياء أمورهم، بل إننا نمضي بعيدا إلى أن الأصل هو أن يحظى المعلم بمكانة اجتماعية تقديرية عالية تعمل على تشكيلها كل المؤسسات المدنية والأفراد المؤثرين لكي يكون عطاء المعلم والمعلمة في أوجه وذروته التي يعول عليها الوطن في بناء ازدهاره وتقدمه.
** **
- مدير عام تعليم سابقا