د. غالب محمد طه
لقد أتاح التقدم التكنولوجي الراحة والسهولة في حياتنا اليومية، إذ أصبحت الأجهزة الذكية والتطبيقات الرقمية جزءًا لا يتجزأ من روتيننا اليومي. فمن الهواتف الذكية التي نستخدمها بانتظام إلى تطبيقات التواصل الاجتماعي التي تلبي احتياجاتنا بشكل فوري، تُسهم هذه التقنيات في تسهيل حياتنا بطرق لم نكن لنتخيلها قبل عقود قليلة. ومع ذلك، وفيما نعيش هذه التحولات التكنولوجية، تبرز أسئلة جوهرية تتعلق بالتداعيات التي قد تترتب على هذا التقدم، هل نتحكم فعلاً في هذه الأدوات التي صُممت لتسهم في راحتنا، أم أن هذه الأدوات قد بدأت تفرض هيمنتها علينا بشكل غير مرئي؟
في عام 2013، حذر تريستان هاريس، المهندس السابق في جوجل، من أن «التكنولوجيا الحديثة لا تعمل على خدمة الإنسان بقدر ما تسعى لإعادة تشكيله». كان هذا التحذير بمثابة دعوة للتفكير في دور الشركات الكبرى مثل جوجل وأبل وفيسبوك في توجيه حياتنا الرقمية. فالشركات المالكة لهذه الأدوات الرقمية لا تقتصر على توفير الخدمات التي نحتاج إليها، بل تسعى أيضًا إلى إعادة تشكيل سلوكياتنا وقراراتنا من خلال خوارزميات متقدمة.
بينما توفر لنا هذه التقنيات العديد من المزايا، فإن تأثيراتها تمتد إلى ما هو أبعد من هذه الفوائد الظاهرة. فنحن نجد أنفسنا، رغم اتصالنا المستمر بالعالم، في حالة من الاعتماد المفرط على التكنولوجيا، لدرجة أن الحياة أصبحت شبه مستحيلة دونها، لقد أصبحت الأدوات التكنولوجية، وعلى رأسها الهواتف الذكية، جزءًا أساسيًا من هويتنا الرقمية، ما يثير تساؤلات حول قدرتنا على التحكم بها.
على سبيل المثال، نجد أن العديد من الأشخاص يشعرون بالانفصال عن العالم عندما يكونون بعيدين عن هواتفهم، مما يعكس مدى التعلق الذي نشأ بيننا وبين هذه الأدوات.
وفيما قد تبدو الإشعارات التي تظهر على هواتفنا غير ضارة، فإن هدفها الحقيقي هو جذب انتباهنا بشكل متكرر، ما يساهم في جعلنا ندور في فلك هذه التطبيقات على مدار الساعة. وقد أظهرت دراسات حديثة أن الإفراط في التعامل مع هذه الإشعارات قد يؤدي إلى زيادة مستويات التوتر والقلق لدى الأفراد، ما يعكس التأثير النفسي العميق لهذه التقنيات على حياتنا.
أما فيما يتعلق بالقرارات الشرائية، فقد أصبحت أيضًا مشروطة بتوجيهات الخوارزميات، حيث تعرض لنا التطبيقات إعلانات «مخصصة» بناءً على سلوكنا الرقمي واهتماماتنا السابقة. ورغم أن هذه الإعلانات قد تبدو وكأنها تلبي احتياجاتنا، إلا أنها في الواقع تسعى إلى تحقيق أهداف تجارية قد لا تتوافق دائمًا مع مصالحنا الشخصية. لكن التأثيرات التي تتركها هذه التكنولوجيا لا تقتصر على المجالات النفسية والشرائية فقط، بل تمتد أيضًا إلى حياتنا اليومية وسلامتنا الشخصية. على سبيل المثال، يُعد استخدام الهواتف الذكية أثناء القيادة أحد أخطر الممارسات التي تزداد انتشارًا، حيث تؤدي الإشعارات المستمرة إلى تشتيت انتباه السائقين وتخفيض تركيزهم، مما يعزز من احتمال وقوع الحوادث. في بعض البلدان، أصبحت الحوادث الناتجة عن استخدام الهاتف أثناء القيادة من الأسباب الرئيسية للوفيات، ما يبرز الحاجة الملحة إلى إيجاد حلول للتقليل من هذه الممارسات.
ومع كل خطوة تكنولوجية نخطوها نحو المستقبل، يزداد التساؤل حول مدى قدرتنا على الحفاظ على سيطرتنا في عالم أصبح رقميًا بالكامل. هل ما زلنا نمتلك القدرة على التحكم في خياراتنا؟ أم أن التكنولوجيا، التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، قد بدأت تفرض هيمنتها علينا بشكل غير مرئي؟
ومن أبرز مظاهر هذه الهيمنة هي منصات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تحتل مكانة كبيرة في تشكيل حياتنا الرقمية. فبفضل الخوارزميات المعقدة، تُقدَّم لنا محتويات تتماشى مع اهتماماتنا الشخصية، ما يؤدي إلى تقليص تنوع المعلومات التي نتعرض لها. في بعض الأحيان، نجد أنفسنا محاصرين في «فقاعات معرفية» ضيقة تجعلنا نعيش في عالم محدود، حيث نعتمد على وجهة نظر واحدة للأحداث دون أن نكون قادرين على الخروج من هذه الدائرة.
رغم هذه المزايا التي تقدمها التكنولوجيا، فإنها تحمل في طياتها أخطارًا قد لا نلاحظها فورًا، ولكن تأثيرها على حياتنا الخاصة قد يكون عميقًا وغير مرئي. فمع التقدم المستمر في هذه الأدوات، أصبحت حياتنا تقاس بالوقت الذي نقضيه أمام الشاشات، وأصبحنا مقيّدين بمؤشرات رقمية تحدد نوعية تفاعلنا مع الأجهزة.
التحدي الحقيقي الذي نواجهه في هذا العصر الرقمي يكمن في كيفية التعامل مع هذه التقنيات بحذر ووعي. يجب أن تبقى التكنولوجيا أداة في خدمتنا، لا أن تصبح هي المتحكمة في حياتنا. ولهذا فإننا بحاجة إلى قوانين وسياسات تضمن حماية خصوصيتنا وحقوقنا الرقمية، وتحافظ على حرية تفكيرنا واتخاذ قراراتنا بعيدًا عن التأثيرات غير المرئية لهذه الأدوات.
في الختام، يظهر التحدي الأكبر في عصرنا الرقمي في إيجاد توازن حقيقي بين الاستفادة من التقنيات الحديثة وبين الحفاظ على حقوقنا وحريتنا. ف»الاستعمار الرقمي» اليوم لا يتمثل في احتلال الأراضي كما في العصور الماضية، بل في الهيمنة على أفكارنا وسلوكياتنا عبر الخوارزميات الرقمية. لذلك، يجب أن نحرص على أن تبقى هذه الأدوات في خدمتنا، لا أن نصبح أدوات في يد الشركات الكبرى التي تسعى لتحقيق مصالحها على حساب استقلالنا وخصوصيتنا. إننا بحاجة إلى تعزيز الوعي الجماعي حول كيفية استخدام هذه التقنيات بحكمة، بحيث تظل في خدمة الإنسانية وتحفظ القيم الأساسية للحرية والخصوصية. وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا حول تأثير الهيمنة الرقمية على حياتنا، ويثير تساؤلات حول كيفية تطور المجتمعات الإنسانية في عالم ما بعد الإنترنت.