رقية نبيل عبيد
في أيّة رواية تدخل ضمن تصنيف الغموض، الجريمة، الإثارة، فإن التشويق وسرعة الأحداث وتتاليها وتصاعدها الذي يخطف منك أنفاسك هم العناصر الأساسية والدعائم التي لابد أن ترتكز عليها، وفي هذا المجال فإن جيمس باترسون هو سيد هذه العناصر بلا ريب! ورائعته العالمية الدفتر الأسود هي خير شاهد على تسيّده هذا، فافتتاحية الرواية غاية في التشويق، وكل فصل يدفعك دفعًا إلى الفصل الذي يليه، والشخصيات التي بدأتَ معها لتوك تألفها سريعًا وتسحبك الأحداث المثيرة دون جهد إلى مسرحها وكواليسها وظلالها وغموضها.
وكما هي العادة في هذا النوع من الروايات، وكما فعلها من قبل أستاذ التشويق والغموض والجريمة المرتبطة بآثار الماضي العتيق دان براون، فإن القراءة هنا لا تكاد تختلف في شيء عن مشاهدة فيلم! الاستثناء الوحيد أن المشاهد تعرض أمامك بكلمات مطبوعة، لكنها وبحق تستحيل صورًا ولقطات سريعة تكاد تقسم أنك تراها بشبكية عينيك، حتى الانتقال من فصل إلى فصل يماثل تمامًا التحول من مشهد لآخر يعقبه، وبرغم طول الرواية إلا أن الصفحات تكاد تكون بلا وزن، فأنت تنزلق بينها سريعًا دون أن تشعر أو تُوقفك كلمة أو جملة ترغب في الرجوع إليها أو الاستراحة على عتباتها قليلًا، وكنت قبيل قراءتي الدفتر الأسود قد انتهيت لتوي من الرواية العالمية الأقصر أو النصّ الرومانسي العذب الأخاذ الذي أهرقه ستيفان زفايغ «رسالة من مجهولة»، وعند كل مقطوعة موسيقية منه،عند كل ترنيمة وتأوه واشتياق وعذاب وجملة ،لا تملك إلا أن تتوقف طويلًا، وتبدو الكلمات لعذوبتها ورقتها جذابة حتى أنك لا تريد الانتقال إلى التي بعدها، لا تريد الرحيل، لا تريد معرفة ما سوف يصير، فقط تودّ لو أن الكون وعجلة الوقت ومفردات الحرف كلها تتوقف ها هنا، ولهذا «النقيض» الذي كانتْه رواية الدفتر الأسود بلْبَلَني لوقت طويل، وأعادني بقوة إلى أرض الواقع القاسي، بكل دهاليزه وسياساته وحيله ومكائده.
بيلي هارني شرطي مثالي، يتمسك بكل النزاهة الأخلاقية والقدرة القتالية وحب عمله كما تلقنك لوائح الشرطة بالضبط! في أحد التحقيقات يتوصل بيلي إلى غنيمة يسيل لها اللعاب، مبنى مشبوه يرتاده ثلة من أرقى طبقات المجتمع المخملي، وما يدور وراء ستائر غرف هذا المبنى معروف لا يحتاج لتوضيح، هكذا ودون تفكير يقتحم بيلي المبنى بفرقته ويقبض على كل من فيه، الفضيحة الإعلامية التي تلتْ هذا الاعتقال قلبت عالم بيلي رأسًا على عقب، وفجأة صار التحقيق يُدار معه هو والأسئلة توجه إليه هو، الكل كان يسأل سؤًالًا واحدًا كبيرًا في غاية الأهمية «أين ذهب الدفتر السري»؟!، الدفتر الذي لابد أن يحمل أسماء زبائن المبنى وحقوقهم المالية وما لهم وما عليهم، هذا الدفتر الغامض الذي أضناهم البحث عنه دون جدوى.
كل هذا جميل، المشكلة أن الفصل الاستهلالي في الرواية يفتتحها بذهاب شقيقة بيلي التوأم إلى شقة أخيها لتعثر عليه مقتولًا في غرفة نومه! هكذا يدير لك جيمس باترسون عقارب الساعة إلى الوراء، ويحكي لك وقائع القصة الشيقة الغامضة منذ بدايتها.
ما قد يكون لم يعجبني بعض الشيء أن الرواية أمريكية قحة! بمعنى أن الشخصيات والمزاح والبطولة والأحداث وطريقة السرد كلها مصبوبة في قالب أمريكي ويبدو كل شيء منكّهاً بروح أمريكية خالصة، وأنا -والحق يُقال- صرتُ لا أطيق أي شيء أمريكي يمكن أن تُنسب إليه رائحة البطولة، لكن هذه النكهة تذوب مع أحداث الرواية المشوقة، وتكاد المفاجآت المتتالية تطيح بك من فوق كرسيك، وأعترف أنني ضبطت أنفي وهو لا يبعد سوى بضعة ملليمترات عن شاشة الهاتف قبيل نهاية الرواية بقليل، الحبكة مدهشة، ولا تعتمد على الذكاء بقدر ما ترتكز على السياسة ودهاليزها والطرق التي تُدار بها الأمور خفية في كواليس المكاتب الداخلية للشرطة، لكنها تتفق مع كل روايات الغموض الناجحة في تقديم عدد كبير من المشتبه بهم طوال الرواية، وإيقاعك في حبل الحيرة والشكوك التي تطال الجميع، ثم وأخيرًا في كون الجاني أبعد من يمكن تخيّله.
لن أعلق أنا على جمال رواية جيمس باترسون هذه، فرواياته التي حطمت رقمًا قياسيًا في سرعة وعدد بيعها حول العالم تشي ببراعته وقدراته الكتابية الفذّة، لكن سيظل شعور أنه يكتب عن كتلة من النزاهة والأخلاق في بطله يذكرك دومًا أنك تقرأ رواية ما لا تعيش واقعًا.