د. منصور الجريشي
الفقد شيء لا يُطاق، ولولا إيماننا العميق بالله لانفجرت قلوبنا، وجفت دموعنا وذبلت أجسادنا، كيف لا، وقد فقدنا رجلًا عظيمًا وشاعرًا مُلهمًا وكريمًا، ذا خصال حميدة وأصيلة، ألَّا وهو الشَّاعر الفارس الشُّجاع محمَّد ربيعان الجريشى، نعم، إنَّه النَّجم الذي سطع ولمع وأبدع في سمائه وأنار ثمَّ اختفى فجأة إلى الأبد دون مقدِّمات.
ومع سخم الحزن ونهشه في جسدي واشتعال النَّار في صدري من حرِّ لوعة الفراق، فقد امتطيتُ سيارتي وانطلقتُ إلى الدِّيار التي كان يقطنها ويحبها الشَّاعر محمَّد الجريشي - رحمه الله- لعلي أنسى ما أصابني من حزن وأعيش لو قليلًا من المتعة مع الإبل لعلها تنسيني ما أنا فيه.
لكن للأسف
عندما وصلتُ تلك الدِّيار وجدت أنَّ الجميع فيها قد امتلأت جوانحهم حزنًا فأهلها جفت عيونهم من الدَّمع، وقالوا جميعًا: جئتَ لتأنس بنا تظن أنَّنا ناسون وساهون عن مصيبتنا الكبرى التي أصابتنا في ابننا البار محمَّد، ألا تعلم أننا أشد منكم حزنا وشجنًا؟!
ثم اتَّجهت إلى المجلس الذي كان يجلس فيه مع من حوله ووجدت خلقًا كثيرًا، ثمَّ رحبوا بمقدمي، وتبادلوا معي الحديث، وحاولوا يؤنسونني، ويرفعون معنوياتي، حتى يبعدوا عني الحزن، وعندها نطق ذلك الرَّجل السَّبعيني وقال: لقد اشتريت جملًا ووضعته مع إبلي وبعد مضي فترة قدر الله على هذا الجمل وانكسرت إحدى أطرافه، وعندما شاهدت ما حدث لجملي انصدمت، وطلبت من الله العوض.
وعندما علم الشَّاعر الكبير محمَّد ربيعان الجريشي اتَّصل بي، وقال: الجمل بداله جمل من خيرة إبلي وحاولت أن أرفض ولكن محمَّدًا لم يستمع إليَّ وقال: سيأتيك وفعلًا نفَّذ الشَّاعر محمَّد العهد الذي قطعه على نفسه.
ثم تحدث آخر، وقال: قمت بمساعدة الشَّاعر محمَّد على وسم الإبل، وعندما انتهينا منها نادني وقال: هذه النَّاقة وابنتها لك فحاولت الرَّفض وأشعرته وأوضحت له بأنِّي لم أفعل ذلك ابتغاء العطاء؛ بل محبة فيكم، وقال: أعرف ذلك، وهذه هدية لك منِّي أخي الغالي.
ثم قام العامل الذي كان يشتغل عنده (وهو من الجنسية السُّودانيَّة) قائلًا: حرمت على نفسي القهوة وألا أعملها أبدًا بعد أخي وحبيبي الشَّاعر محمَّد الجريشى.
ثم أردف قائلًا: لقد افتقدت الضُّيوف ساحته؛ فمجلسه يوميًّا ممتلئ من النَّاس ويكرمهم دون تذمُّر، ووجه مبسوط وضاحك ويتحدَّث لهم ويلقي عليهم القصائد وجميل القصص ويستأنسون بما يقوله ويسعدون ويتسامرون إلى منتصف اللَّيل، وهو فرح مستبشر بضيوفه.
ثم تحدث آخر، وقال: كنت جالسًا عنده وأتته امرأة، وقالت: يا محمد أنا أم أيتام وقد تعطَّلت ثلاجتنا التي نبرد بها ماءنا ونحفظ بها طعامنا، وأني جئتك من بعيد ولا أريد منك سوى ثلاجة بدلًا من ثلاجتنا، ثم قال: أبشري بالخير، انصرفي وسوف تأتيك في منزلك ثم مع الصَّباح حمل أحد جماله وباعه بالسُّوق واشترى لهذه المرأة ثلاجة وملأها لها خيرات وضعها في بيتها وانصرف.
وقال أحد الحضور قائلًا: الشَّاعر محمَّد كريم وشاعر حكيم له صولات وجولات في الشِّعر ولا يشق له غبار فقد أعجبني قوله:
صدري مطاف الظروف اللي تلم الهموم
اللي على غير مله تلبس احرامها
والفرحه اليا بغت تاخذ طواف القدوم
عساكر الضيق قامت تزرع الغامها
ثم قال آخر الشَّاعر محمَّد له بيت من الشِّعر يذكر به الجميع وهو حكمة لنا ولغيرنا وللأجيال القادمة؛ حيث قال:
والله ما تملك من الدنيا فتر
لو كوكب الارض بقدمك تمتره
قسمك من الامتار مترين بمتر
وعزي الحال العالم المستهتره
الكثير والكثير ذكر وقال عن الشَّاعر محمَّد -رحمه الله- والكل عليه حزين ويقولون: عزاؤنا محبة النَّاس له وحضورهم للصَّلاة عليه وحضور أيَّام العزاء وبعد انتهائه؛ حيث أتوا من كل مكان من مملكتنا الغالية، والثَّناء عليه والدُّعاء له بالرحمة.
يا محمَّد طبت حيًّا وميتًا، ولم أقابل أحدًا إلَّا ويثني عليك خيرًا حتَّى الطُّلاب صغار السِّن والكبار منهم يسألون أبنائي عنك، ويدعون لك بالمغفرة فأنت حيٌّ في قلوب الجميع.
يا محمَّد طلابك يسألون عنك، وينتظرون وصولك غير مصدِّقين بما أصابك، ومفجوعين ودموعهم كأنَّها سحابة.