تغريد إبراهيم الطاسان
تُعتبر الفلسفة من أقدم الحقول الفكرية التي تتناول الأسئلة الكبرى المتعلقة بالوجود، الحقيقة، والخير. حيث إن هذه القيم ليست مجرد مفاهيم نظرية، بل هي أسس يمكن أن تسهم بشكل جوهري في تحسين جودة الحياة للأفراد والمجتمعات.
عندما نستكشف العلاقة بين الفلسفة وجودة الحياة، نجد أن الفلسفة تقدم إطارًا لفهم أعمق للحياة الإنسانية، مبنيًا على تأملات حول الغاية من الحياة، القيم التي تحكمها، والمعاني التي تسكن تفاصيلها.
الوجود هو أحد أهم المحاور التي تطرحها الفلسفة لتحسين جودة الحياة، وسؤال «لماذا نحن هنا؟» يتجاوز الجانب النظري ليشمل تأملات حول تحقيق الذات، البحث عن السعادة، والعيش بمعنى.
الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر ركّز على فكرة «الوجود الحقيقي»، حيث يتطلب الأمر من الإنسان أن يواجه واقعه بشجاعة ويتعامل مع التحديات التي تحيط به ليحقق معناه الشخصي.
عندما يفهم الإنسان دوره في الحياة، فإنه يتمكن من تحديد أهدافه بشكل أوضح، مما ينعكس إيجابًا على جودة حياته.
وبالنظر إلى الحقيقة، كمفهوم فلسفي، نجد أنها هي جوهر الفكر الإنساني وسعيه لفهم العالم، ففي الفلسفة، تُعتبر الحقيقة مفتاحًا للعيش بوعي واتزان. في الحياة اليومية، يساعد السعي نحو الحقيقة في تعزيز التفكير النقدي واتخاذ قرارات مستنيرة.
هذا السعي ليس هدفًا بحد ذاته، بل هو رحلة تُعلّم الإنسان التواضع الفكري وتدعوه للبحث المستمر عن المعرفة. تعزيز الحقيقة في حياة الأفراد يؤدي إلى مجتمع أكثر عدالة واستقرارًا، حيث يكون الحوار مبنيًا على الحقائق والاحترام المتبادل.
وكذلك مفهوم الخير في الفلسفة، ليس مجرد عمل أخلاقي عابر، بل هو جوهر الوجود الإنساني، فالأخلاق الفاضلة التي ناقشها أرسطو تقوم على فكرة السعادة كغاية للإنسان، والتي تتحقق من خلال التوازن بين الفضائل المختلفة مثل الشجاعة، الحكمة، والعدالة. هذه القيم الأخلاقية تعزز الشعور بالرضا وتساهم في بناء علاقات إنسانية قائمة على المحبة والاحترام. عندما يتحلى الأفراد بالقيم الأخلاقية، تتحسن جودة حياتهم وحياة الآخرين من حولهم، مما يخلق مجتمعات متماسكة ومزدهرة.
في هذا الإطار الفكري، جاء مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2024 الذي عقد مؤخراً كحدث فكري ثقافي متحضر، يعكس دور الفلسفة في تحسين جودة الحياة. المؤتمر، الذي نظمته هيئة الأدب والنشر والترجمة، تحت شعار «الفلسفة وجودة الحياة: الوجود والحقيقة والخير»، وحضره أكثر من 60 مفكرًا من مختلف أنحاء العالم.
وقد ناقش المؤتمر قضايا وجودية وأخلاقية تمس حياتنا اليومية، بالإضافة إلى تسليط الضوء على كيفية الاستفادة من الفلسفة في مواجهة التحديات المعاصرة مثل التكنولوجيا، البيئة، والصحة النفسية.
وإلى جانب الجلسات النقاشية وورش العمل، يُعتبر المؤتمر منصة لتبادل الأفكار والخبرات بين مفكرين من مختلف التوجهات الثقافية والفكرية.
هذا التنوع يعزز من فهم أعمق للعلاقة بين الفلسفة وحياتنا اليومية، ويدعو إلى استكشاف الطرق التي يمكن من خلالها تطبيق الأفكار الفلسفية لتحسين جودة الحياة.
ويوما بعد يوم، تثبت الفلسفة أن تحسين جودة الحياة لا يتطلب موارد مادية بقدر ما يتطلب وعيًا عميقًا بالوجود والقيم، ويمكن لكل فرد أن يطبق مبادئ فلسفية بسيطة في حياته اليومية، مثل التفكير النقدي، السعي للحق، والتحلي بالأخلاق الفاضلة. هذه المبادئ ليست مقتصرة على الفلاسفة، بل هي أدوات في متناول الجميع لتحسين تجربتهم الإنسانية.
ورغم ذلك كله نجد أن الفلسفة كحقل فكري عميق تواجه في مجتمعنا واقعًا مزدوجًا: بين التقدير المتزايد لدورها في تطوير الفكر والوعي، وبين التوجس الذي لا يزال قائمًا في بعض الأوساط.
هذا التوجس نابع من ارتباط الفلسفة لدى البعض بمفاهيم معقدة أو جدالات تتعارض مع القيم المجتمعية والدينية، وساهمت في تشويه صورتها.
ولكننا في السنوات الأخيرة، شهدنا انفتاحًا أكبر على الفلسفة في المملكة العربية السعودية، خاصة مع إدراجها كمادة دراسية وتعزيز الحوار حولها في مؤتمرات كبرى مثل مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة. مثل هذه المبادرات تُظهر تطورًا إيجابيًا نحو فهم أعمق للفلسفة باعتبارها وسيلة لفهم القيم الإنسانية، وتحقيق جودة حياة أفضل.
ومع ذلك، يبقى التحدي في توسيع هذا القبول وجعل الفلسفة متاحة للجميع بأسلوب بسيط وعملي، يوضح علاقتها المباشرة بالواقع، بعيدًا عن التعقيد النظري الذي قد ينفر البعض. من خلال التركيز على قضايا ملموسة مثل الوجود، الحقيقة، والخير، يمكن للفلسفة أن تصبح أداة لبناء مجتمعات أكثر وعيًا وتماسكًا.
يُعتبر مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة 2024 مثالًا حيًا على هذا التوجه، حيث يهدف إلى تعزيز تقبل الفلسفة عبر نقاشات وورش عمل تربطها بحياة الناس اليومية، مما يسهم في كسر الحواجز التقليدية التي قد تحد من انتشار الفكر الفلسفي في مجتمعنا.