أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
وعلى الرغم من المقاربات والمفارقات بين النظرية والقانون فلا يزال الإطار المرجعي يعاني أحياناً من إشكالية استخدام النظرية والقانون في العلوم الإنسانية بمعنى واحد.
وكما هو معروف يختلف القانون بطبيعة الحال عن النظرية التي لن تصبح قانوناً إلا إذا ثبت صدقها ونالت مستوى من العالمية والعمومية، وتجردت من أثر الزمان والمكان بحيث تعطي تطبيقاتها نتائج متقاربة جداً لنفس الظاهرة المقاسة في أزمنة وأمكنة مختلفة.
ولربما يعود السبب في استشراء غياب القوانين في النظريات الإنسانية إلى كونها في رأيي صيغا لا تتعدى منهجيا واسلوبيا مستوى الفرضيات الكبرى غير المحققة احصائيا في بعض الأحيان الأمر الذي قد يترتب عليه عدم توفر الفرص المحتملة الكافية لإثبات أن النتيجة التالية لن تناقض تلك الفرضيات مهما تكرر حصول النتائج نفسها في فرص تطبيقية قطعية سابقة أو لاحقة.
ولا شك عندي أن معظم الفرضيات التي تتأسس عليها ما يسمى بـ«نظريات العلوم الإنسانية» هي هياكل ذات بنيات أحادية الفاعلية يُعنَى العديد منها في الأغلب الأعم بتفسير غير كامل الاستدلال لظاهرة نفسية أو اجتماعية أو عمرانية أو سكانية أو سياسية أو اقتصادية واحدة فقط. ونتيجة لذلك تعجز تلك البنيات التنظيرية عن تصوير الجوانب المجتمعية المعقدة منظومياً ائتلافا واختلافاً مما يؤدي حتما إلى طيف بنيوي تصبح النظرية فيه ضد النظرية فتتقلص تبعاً لذلك فرص ارجاع الأشياء فيها شمولياً إلى تفاعل أساسي واحد.
وإضافة إلى ما ذكر أعلاه، فإن النسيج البنيوي الاستاتيكي الدوجماتيكي الاتجاه للنظرية في العلوم الإنسانية في رأيي هو سبب آخر يعطي النظرية الإنسانية هذا الواقع غير المنسجم مع أنموذج النظرية العلمية المأمول. فهو نسيج يربط الظاهرة المجتمعية موضع الدراسة ببناء المجتمع ووظائفه من حيث هو كبناء لا من حيث عملياته أو من حيث سلوكه البرجماتي الحركي.
ونتيجة لذلك تقتصر معظم النظريات الإنسانية على معالجة القضايا وفق منظور يبرز الاختلافات الزمانية للمكان أو الأحداث دون الأخذ في الاعتبار أبعاد المؤتلف الزمكاني في الساحة المدروسة أو المبحوثة إن صح التعبير.
ولا شك أن هذا القصور في مجال النظرية الإنسانية يعيق ولحقب طويلة إمكان الوصول بالإطار المرجعي للعلوم الإنسانية إلى نظرية ائتلافية موحدة الحقول تحدد، كما هو الحال في العلوم الطبيعية، نوع العلاقات بين الظواهر مؤتلفها ومختلفها، وتقيس نسيجها قياساً قرائنياً استدلالياً جائزاً.
ولا شك أن الطبيعة الإنشائية الدجماتية غير الرياضية لهذا النسيج قد يعيق في معظم الأحيان فرص ربط بعض نظريات العلوم الإنسانية ببعضها وبالتقنيات والنظم الأسلوبية الاستدلالية الحديثة التي بموجبها يتحدد رياضيا مسار الحدث الإنساني وتُضبَط عدديا وقائع مكانه وزمانه وأطياف اختلافه وائتلافه.
واعتماداً على الأسباب الآنفة الذكر للتضاد بين النظريات في العلوم الانسانية يمكن الاستنتاج بدقة عالية نسبياً أن تفسير الظواهر الإنسانية في هذه العلوم يستند إذاً على هياكل لا تحمل منهجيا لغة معرفية معيارية للنظرية العلمية كالبديهيات والمسلمات والتعريفات وكامل خطوات الاستدلال وأسانيد التجريب.
وبناءً على ما سبق تعد في رأيي المتواضع أغلب نظريات التخطيط من القاعدة أو من القمة وبعض نظريات المدن والسكن على سبيل المثال لا الحصر نماذج صارخة للقصور التنظيري الآنف الذكر.
كما يندرج تحت طيف هذا القصور نظريات السلطة والقوة أو نظريات الحضارة كتابو الرمزية والعصبية المجتمعية أو الإقليمية الضيقة الآفاق والنظرية التاريخانية الاجتماعية والآثار- أنثروبولوجية وبعض نظريات علم الاجتماع والنفس والتربية والجغرافيا البشرية. ويمكن أن تستثنى من هذا الطيف على سبيل المثال لا الحصر بعض نظريات الاقتصاد الكلي والإكينومتري ونظرية العرض والطلب بمختلف قوانينها ونظريات رأس المال وربما النظرية البنائية التحليلية في علم النفس الاكلينيكي ونظرية الشبكات ونماذج انحلال المادة التي يحاكيها علم السكان المعاصر.
ويتضح وفقاً لما مضى ذكره أن الواقع التنظيري في العلوم الإنسانية يحتاج إذاً إلى بذل جهود حثيثة لإعادة بنائه وربطه بأطر نظريات أعم وأشمل وأقل عدداً من النظريات التي يحتويها الإطار المرجعي في هذا الحقل المعرفي.
ولكي تنجح هذه الجهود لا بد أن يتخلى المنظرون في العلوم الإنسانية عن اعتقادهم بصحة النظريات التي يستخدمونها وضرورة العمل على تعريض متون نظرياتهم لمبدأ التكذيب أو النقض بدلاً من مبدأ البرهان. كما يجب أن يعطي المنظر للسياق الاستقراء- الاستدلالي التكاملي للنظرية وزناً يفوق الوزن الذي يعطيه للتيارات المذهبية الذاتية التوجه إن صح التعبير أو المدارس الفكرية المتحيزة المتأزمة المنظور.
وفي رأيي المتواضع أن النظريات الإنسانية لن تستطيع اجتياز حاجز ضعف السياقات أو خلل أولويات الوزن أو تضاد بنياتها المعرفية إلا بعد إعادة صياغاتها التنظيرية بحيث تقبل التحول أو التبدل في المتون وفقاً للتغيرات في الظواهر المبحوثة وتطوراتها الزمكانية شريطة الا يؤدي هذا التحول إلى تغيير في البنيات المنطقية للنظرية كما أشرت إلى ذلك آنفا.
إن عدم الوصول إلى الأنموذج المأمول للنظرية الإنسانية في الوقت القريب سيدفع بالنظريات في العلوم الإنسانية أن تتخذ من نفسها معاول هدمها الأمر الذي يجعل الوسم الذي اتخذته عنوانا لهذا المقال وهو: «النظرية ضد النظرية في العلوم الإنسانية التطبيقية» عبارة صادقة صحيحة مقبولة تتماهى مع هذا الوسم من ناحية ومع الواقع التنظيري في العلوم الإنسانية من ناحية أخرى.