أ.د.عثمان بن صالح العامر
العالم كله يلج مرحلة جديدة جراء ما ينعت بالثورة التقنية التي أزالت الحدود، وكسرت الخصوصية وخلطت الأوراق ولعبت بالعقول واخترقت البيوت وبدلت ترتيب الطبقات المجتمعية، فارتفع أناس وهبط آخرون، وأفسدت على الاستراتيجيين التقليديين الخطط، وأحرجت المنظرين والكتاب والمفكرين الذين استشرفوا المستقبل برؤية عقلية القرن الماضي فضلاً عمّا قبله، ليس هذا فحسب، بل على مستوى الفرد جعلت الشاب والفتاة في أي بلد يعيش أمام تحدٍّ حقيقي في التخطيط الجاد لمستقبله التعليمي والوظيفي، فالخبراء المستشرفون للغد، والمخترعون المبتكرون في مجال التقنية يبشرون - وفِي ذات الوقت ينذرون - بمستقبل مختلف، تُشِيأُ فيه الوظائف الخدمية سواء في قطاع التعليم أو الصحة أو الهندسة أو... فضلاً عن غيرها، وهذا يعني أن هناك وظائف مهمة قد يقل الطلب عليها في المستقبل وربما القريب منه بشكل ملحوظ، مما يوجب على متخذي القرار ومجالس الجامعات والمختصين برسم استراتيجيات التنمية الوطنية قبل الشباب والفتيات أن يجعلوا هذا الأمر نصب أعينهم وهم يضعون بصماتهم المؤثرة في واقعنا المحلي على ضوء رؤية المملكة 2030، كما أن على الشاب والفتاة أن يكون عالمي النظرة، واسع الأفق، يفكر بعمق قبل أن يخطو خطواته الأولى في مشواره الجامعي حتى يتمكن من الحصول على وظيفة مناسبة له تتوافق مع مؤهلاته العلمية ومعارفه التخصصية ومهاراته الحياتية ولا تتناقض مع مسلماته العقدية وقيمه الإسلامية وعاداته وتقاليده وموروثه الثقافي والاجتماعي الذي يعتز به.
إن ما منيت به تخصصات جامعية معروفة في السنوات الماضية من استغناء سوق العمل سواء الحكومي أو الخاص عن خريجيها جزماً سيمتد إلى غيرها بشكل متسارع، ولذا كان لزاماً وجود مراكز متخصصة سواء خاصة أو حكومية همها الأساس ووظيفتها الرئيسة إجراء الأبحاث والدراسات المستقبلية ووضع الاحتمالات الثلاثة (المتوقع، الممكن، المأمول) أمام أنظار الجيل الذي يعيش اليوم في حيرة حين التفكير الجاد بحاله في قادم الأيام، مع تحديد ما يتطلبه كل احتمال من معارف ومهارات يجب على الجامعات والمعاهد ومؤسسات التدريب أن تفي بها وتجيد تقديمها لجيل اليوم، وفِي ذات الوقت على الأسرة أن تدرك حجم التحدي القادم وصعوبة المنافسة على الظفر بالوظيفة الملائمة فتوافر البيئة الحاضنة للابن - أو البنت - حتى يكون مؤهلاً لخوض معركة الحياة - بعد عون الله وتوفيقه - بكل حذق واقتدار.
إنني لست من أنصار (عقلية الندرة)، بل كنت وما زلت على يقين (بالوفرة)، ولكن كل المعطيات التي أراها وأستشرف بها قادم الأيام تومئ إلى أن التقنية ستحل محل الإنسان بشكل كبير، وما نعيشه اليوم هو مجرد بدايات لعهد ستتعزز فيه أرقام البطالة البشرية عالمياً، وستتسع الهوة والفجوة بين الطبقات التي سيعاد فرزها من جديد حسب القرب أو البعد من عالم التقنية وعالمية الوجود، وربما ولد هذا التغيير وَقاد إلى حروب اقتصادية خطيرة - لا سمح الله - دمتم بخير، وإلى لقاء والسلام.