أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
تتألف البنى الأساسية للنظرية من مفاهيم وتصورات تربط النتائج بالمقدمات إضافة إلى اشتمال هذه البنى على عدد لا نهائي من فرضيات العدم المقيسة التي تُمَكِّنُ الباحثين بعد اختبار مصداقيتها احصائيا من تسخير نتائجها المحققة في استنباط التعميمات الاستقراء-استدلالية التي تُوَظَّفُ في تفسير السمات المختلفة للظواهر قيد النظر وتحليلها والتنبؤ بمساراتها المستقبلية ومحاكاة مسلكياتها الطبيعية والبشرية النوعية الواسعة الأطياف رياضيا.
ومن الجدير بالذكر التنويه أنه لا يمكن للتعميمات المستنبطة أن ترتقي إلى مستوى النظرية إلا إذا صيغت، كما هو الحال في العلوم الطبيعية، بطريقة تجعلها قادرة على وصف مجموعة كبيرة من المشاهدات بشكل دقيق وفق أنموذج رياضي يحوي أقل عدد ممكن من الموجودات أو العناصر غير المتسامتة احصائيا.
كما لا يمكن للتعميمات أن تصبح نظرية فاعلة علميا إلا إذا كانت قادرة وظيفيا على التنبؤ الدقيق بالحالات المستقبلية للظواهر ورصد معدلات تكرار حدوثها وتفسير طبيعة علاقاتها البينية والتبادلية وفقا للقوانين التي تتحكم في تلك العلاقات من ناحية وتحدد طبيعة أنماط مساراتها المرتجعية التغذية من ناحية أخرى.
كما لا يمكن في المقابل أن يرتقي التعميم المستنبط إلى مستوى النظرية العلمية إلا بعد اكتمال بنائه الاستقراء- استدلالي بالكيفية التي تجعل النظرية المعنية به قيد التطبيق تفوق الواقع المقيس الذي تمثله بساطة وإيجازاً.
وعليه إذاً، فالنظرية المقبولة أو الصادقة علميا هي التي تحقق التسوية بين مطلبي البساطة والخلو من التعقيد والاتفاق مع الوقائع المرئية وقبول الحق المشروع علميا لنقضها او تكذيبها وائتلافها مع غيرها من النظريات في حقل تنظيري واحد. ونتيجة لما سبق فإن إثبات نظرية ما لا يكون إذاً مرهونا بالحالات التي تتفق معها وإنما بالحالات المضادة لها، مما يعني أن حالة سلبية واحدة تكفي للبرهنة على فساد النظرية في الوقت الذي تعجز فيه حالات إيجابية عديدة عن إثبات صدقها، وهو أمر يجعل فرص رفض النظريات في العلوم الإنسانية مقارنة بنظيراتها في العلوم الطبيعية أكبر من فرص قبولها.
ولذا لا تعد النظرية في كافة العلوم صيغة علمية إلا في حال إثبات فساد جميع الفروض التي يحتويها بناؤها المنطقي عدا فرضاً واحداً يتفق مع المتغيرات التي تستند عليها النظرية. ويعد هذا الأمر في حد ذاته إشكالا أساسيا في النظرية الإنسانية التي يحمل بعض منها في داخلها ما يٌقوِّضٌها بحيث تصبح نظرية إنسانية ما مضادة لنظرية إنسانية أخرى. ولذلك من المهم أن تعنى البحوث العلمية التنظيرية المعاصرة بسبر أغوار النطاقات التي تتناقض فيها النظرية مع الواقع أو مع نظرية أخرى من ناحية والعمل حثيثا في الآن نفسه على توحيد مسارات التفاعلات وتوسيع نطاقات ترابطها بحيث تنتهي هذ المسارات في نظرية شاملة ترجع الأشياء إلى تفاعل أساسي واحد من ناحية أخرى. وهي جهود، إن حدثت، سوف يتمخض عنها تطور النظريات وتوسيع قاعدة مشاهداتها واستيعابها للصيغ المضادة لها أو التي تتناقض معها بحيث تصبح تلك الصيغ حديات تنظيرية ضمن الإطار المعرفي للنظريات التي تتناقض معها. ولربما يتمخض عن هذه الجهود أحياناً تَعَرُّضَ النظرية، كما هو الحال في علوم الطبيعة تحديداً، لتحولات رياضية محتملة شريطة ان لا تؤدي هذه التحولات إلى تَغَيُّرٍ جذري للبنية المنطقية للنظرية ونظام أنموذجها الرياضي قيد التنظير. والواقع أن تطبيق الاشتراطات المعرفية الآنفة الذكر ذات الصلة الوثيقة أصلاً بالتنظير في العلوم الطبيعية، قد يفرض على العلوم الإنسانية واقعا معرفياً معقدا يتمثل في صعوبة أخذ هذه العلوم بكل تلك الاشتراطات أو على أقل تقدير محاكاة البعض منها بالشكل المطلوب منهجياً الأمر الذي قد ينجم عنه تضخم أعداد النظريات المتضادة غير الكاملة الاستدلال مرجعياً.
ولابد من التأكيد هنا بأنه ليس من العدل والموضوعية المنهجية وأخلاقيات البحث العلمي أن يعزى السبب في ذلك التضاد التنظيري في العلوم الإنسانية بأي حال من الأحوال، كما يظن البعض، إلى قصور في بنية هذه العلوم أو في مناهجها وأساليبها وتطبيقاتها التي كانت ولاتزال تملأ الأسماع والأبصار بالإنجازات العلمية الحافلة القيمة التي أسهمت عبر التاريخ ولا تزال تسهم في بناء الحضارة الإنسانية وفهم طبيعة تحولاتها البنيوية وأنماط تطوراتها الزمكانية. ولكن قد يكون من المقبول إلى حد ما أن يعزى ذلك التضاد التنظيري في العلم الإنساني إلى طبيعة مادة هذا العلم ومجالات دراساته التي تتعامل مع الإنسان الحر المريد المختار المتجدد في أفكاره وتوجهاته وسلوكه عقلنة ووجدانا. كما قد يعزى ذلك التضاد بين نظريات العلم الانساني الي طبيعة الخلفيات العلمية للمشتغلين بهذا العلم وتوجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم المدار سية التيارية الواسعة الأطياف منظورياً وايدولوجياتهم الضاربة في العمق الاشتقاقي والتفسيري والتنبؤي لتلك النظريات.
ومن المحتمل أن يعود هذا التضاد التنظيري أيضاً إلى افتقار الإطار المرجعي للعلوم الإنسانية في أحايين عديدة إلى تعريف محدد للنظرية أو لمجالات تطبيقاتها فضلا عن تنوع أنماط تفسير النظريات للظواهر المبحوثة نفسها في المكان والزمان بل وتناقضها مع بعضها ومع الوقائع المقيسة والتفسيرات قيد النظر الأمر الذي يترتب عليه خروج تلك التطبيقات عن مجالها العلمي المنشود. وهو خروج قد يفرض على النظرية في العلوم الإنسانية نسقا من الأفكار والتصورات والاتجاهات غير المحققة التي لا ترتقي إلى مستوى الأنموذج المأمول للنظرية العلمية. وربما تعود إشكالية التضاد التنظيري في رأيي أيضا إلى ولادة بعض النظريات في العلوم الإنسانية في بيئة معرفية تزخر بالمدارس الفكرية التي تؤثر سلبا في مسارات خطوطها الأحادية المتضادة غير المرتجعية. وهي خطوط تركز بحكم طبيعتها المعرفية على الأنموذج التصويري للنظرية الذي تغيب فيه أحياناً الممارسات والقواعد المنهجية والاشتراطات الأبستمولوجية التي من المفترض توظيفها في رفع النقاب اجرائيا عن هذا الأنموذج التصويري قيد الاشتقاق.
وإضافة إلى ما سبق يمكن أن يعزى التضاد بين بعض نظريات العلوم الانسانية إلى حالة الغياب الملحوظ للقوانين الضمنية التي من المفترض ان تحتويها البنيات المنطقية لتلك النظريات الأمر الذي يؤدى إلى تعذر تطبيقها في غياب القوانين التي تشملها.