د. فودة محمد علي
تأملت حال الكثير من الدراسات التنظيرية بأسرها فوجدت نظرياتها بنيت من خلال ممارسة تطبيقية أكثر منها دراسات نظرت للتطبيق، فعلم النحو كله -مثالا- بني على ممارسة تطبيقية حال كل علوم اللغة، العجيب أن هذا العلم وقف عند مرحلة محددة، ولم يبرحها لذلك لا يزال أسيرًا لتلك الفترة، ورغم تعدد الأكاديميات فلم تعد ما تقدمه شروحًا وحواشي لعلم فرغ منه بالكلية، وتأملت كافة الدراسات الإعلامية فوجدتها تؤصل لتطبيق عملي؛ فالمؤلفات تكتب كتسجيل وتوثيق للممارسة، وليس للتقعيد لها بل يتم التقعيد من خلال الممارسة، وبالتالي تكون القاعدة رهينة التطبيق في الوقت الذي يجب أن يكون فيه التطبيق قائمًا على أسس نظرية؛ لذلك ظلت النظريات أسيرة للتطبيقات الإعلامية، حتى النظريات الإعلامية التي وضعها منظرون أجانب في فروع علمية متعددة، سواء في السياسة أو الاجتماع أو حتى التي نبعت من الجهد التنظيري الإعلامي كانت محاولات لفهم التأثيرات العملية للإعلام، ولهذه اللحظة لا يزال الفقه التنظيري يدور في حمأة الممارسة لفهم تأثيراتها دون أن يُنَظِّر لآلية عملها.
وإذا بحثنا حال جل الدراسات الإعلامية سنجدها محاولات لفهم الآلية التي يعمل الاتصال والإعلام القائم من خلالها، سواء لفهم الدور الذي يقوم به أو الوظيفة التي يؤديها أو التأثير الذي يحدث نتيجة الممارسة، أو العوامل التي تؤثر فيه من خلال عناصر العملية الاتصالية الثمانية القائمة، أو محاولة تحليلها وتفسيرها ثم تقديم وصف لهذا الواقع!
مما جعل التطبيق سابقًا دائمًا لحالة التنظير فصار الواقع التطبيقي حاكما على الفكر النظري بل جعله رهينة له، بل عجز التأصيل العلمي عن ملاحقة التطورات الميدانية.
وإذا أراد الأكاديميون أو الأكاديميات المنظرة أو العلوم النظرية - وأنا منها- أن تضمن بقاءها فعليها أن تتجاوز الواقع، وتسبق التطبيق وتُنَظر للتطبيق ولا تُنَظر من خلاله، هذا إن أرادت أن تكتب لنفسها بقاء ووجودا على الخريطة العلمية، حيث باتت الممارسة وكأنها في غنى عن هذا التنظير والتحليل، وبالتالي، ظهرت الإشكالية الواضحة التي باتت تؤرق الجميع، التي تمثلت في تكدس المؤلفات النظرية على أرفف المكتبات دون نظر لما فيها.
وإذا ما جاز لنا المقارنة بين العلوم النظرية التي كان الأصل فيها أن تنطلق من فكر محلق خلاق مبدع لا تزال منغمسة في فهم الواقع والتنظير من خلاله، وبين العلوم التطبيقية التي الأصل فيها الارتباط بالواقع، كانت أكثر إبداعًا وتحليقًا فسبقت النظريات التطبيقية والقوانين العلمية الواقع، ونظرت وخططت له لذلك نجد هذه المجالات تتمسك بها الدول، وصارت لها الأفضلية المطلقة التي تستحق الرعاية والإنفاق؛ لأنها ببساطة نظَّرت للواقع وسبقته واستقى الواقع التطبيقي تطوره وتقدمه من خلال هذا التنظير، فعلى سبيل المثال لم يكتف الطب بتشخيص الحالة ووصفها وتحليلها فقط، ولم تكتف الهندسة بوصف الآلات والماكينات وفهم عملها أو حتى صيانتها، ولكن كانت النظرية والرسومات سابقة لكل عمل ميداني، ولم يكتف منظرو التكنولوجيا بكشف كيفية عملها بل كانت لهم قدم السبق في وضع أسسها، والتنظير لها، بل سبقوا ذلك بكثير وقاموا بتطويرها.. ووضعوا نظريات تطورها وتقدمها.. بل الأعجب أن التطبيقيين استفادوا من الخيال في تطوير الواقع من خلال أدب الخيال العلمي، فأعمال جول فيرن وويلز كانت محفزا لهم على تطور تكنولوجي كبير، وتمسك النظريون بالواقع الذي سبق تنظيرهم، ولم يعد في إمكانهم متابعة تطوراته.
لذا، الذي أتمناه في بحوث العلوم النظرية والإنسانية والمؤتمرات القادمة أن تبحث عن تقديم رؤى مستقبلية للمجالات التطبيقية، وليس الوقوف عند وصف وتفسير الظواهر الواقعية وفقط.
هذا لو أخذنا في الاعتبار، أن العلم في فترة الرقي الإنساني للحضارة الإسلامية كانت هذه الأمنية محققة، ونجح العلماء في كافة المجالات الإنسانية أن يُنظروا للمستقبل في كثير من المسائل، والتي لا تزال كثير من الأكاديميات عالة على ما نظره المسلمون الأوائل في هذه العلوم..
بل في هذه الحقبة كانت الأفضلية والإقبال العلمي في كافة ربوع العالم على هذه العلوم النظرية التي نجحت في وضع تراث إنساني، لا يزال يستقى منه رغم مرور مئات السنين عليه، فانشغل واشتغل بها كافة العلماء حتى العلماء الطبيعيون أنفسهم، كانوا يجمعون بين دراستهم النظرية ودراستهم التطبيقية فكانت الدراسات النظرية بمثابة الموجه والملهم لكافة العلماء في جميع التخصصات!
** **
أستاذ الإعلام - جامعة الملك فيصل