د.عبدالله بن موسى الطاير
استقراء أدبيات الحروب الكبرى ينتج مصفوفة من المؤشرات، دونما إغفال لحقيقة أن الحروب الكبرى معقدة ومتعددة الأوجه، وفي الأغلب ما تندلع نتيجة توافر وتفاعل عوامل عديدة. ومع ذلك، تظهر بعض الخيوط المشتركة من التحليل التاريخي متمثلة من الناحية السياسية في التركيز الشديد على الهويات الوطنية والاستعلاء القومي. هتلر فعل ذلك قبل الحرب العالمية الثانية، واليمين الإسرائيلي سن عددا من التشريعات العنصرية، والمد اليميني الغربي يدفع في هذا الصدد، وستكون أمواج المد المتطرف المحافظ عاتية خاصة بعد وصول حركة (ماغا) إلى البيت الأبيض. ربما يكون من يمن الطالع أن الرئيس ترامب حسب ما يعلن لا يرغب في المزيد من الحروب، لكن عودة أمريكا إلى الحالة الانعزالية، والانكفاء على الداخل سيعطي لاعبين آخرين الفرصة لتعريض الأمن والسلم العالمي للخطر. النعرة الشوفينية في الأغلب ما تقترن بتمجيد القوة العسكرية والإيمان بضرورة الحرب لتحقيق الأهداف الوطنية مما يفاقم سباق التسلح والاستعداد لاستخدام القوة لحل النزاعات بديلا عن المسارات الدبلوماسية.
بدون شك أن تزايد أعداد السكان في العالم، وما تحدثه التغيرات المناخية من تأثير سلبي على المصادر الطبيعية قد يدفع بموجة من الطموحات الإمبريالية والتنافسات الاستعمارية الجديدة على الموارد والأراضي والنفوذ بين القوى الكبرى، مما يخلق التوترات ويؤدي إلى صراعات تتطور إلى حروب أوسع نطاقا. الإعلانان الأخيران لكل من تشاد والسنغال اللذان يقلصان أو ينهيان الوجود الفرنسي في البلدين، هما تحركان في سياق إفريقي أشمل للتخلص من المستعمر القديم، إلا أن ذلك يفتح باب الأسئلة عن البديل الاستعماري الجديد هل هو الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، روسيا أم قوى صاعدة يمكن أن يؤدي وجودها في قارة واحدة إلى احتكاك خطير للاستئثار بالموارد الطبيعية للقارة الإفريقية.
لقد أحدثت المواجهة المفتوحة بين روسيا ودول الناتو في أوكرانيا تأثيرات وسلبيات على الدبلوماسية والتعاون الدولي متعدد الأطراف، ويمكن أن يؤدي فشل الجهود الدبلوماسية لحل النزاعات، الذي في الأغلب ما يصاحبه ارتفاع في انعدام الثقة والعداء بين الدول، إلى خلق بيئة مواتية لتوسع رقعة الصراع المسلح والحروب العابرة للحدود. وفي ظني أن تحرك الشمال السوري لا يمكن أن يكون بمعزل عن الحرب في أوكرانيا، والحرب التي تشنها إسرائيل منذ عام ونيف على غزة ثم لاحقا على لبنان.
هناك تحولات في موازين القوة بين الدول يمكن لها توتير التحالفات القائمة أو تفكيكها، ونشوء تحالفات جديدة تفاقم عدم الاستقرار، وتتزامن مع استخدام اللغة والدعاية التحريضية لشيطنة الأعداء والتحالفات المناوئة، وحشد الدعم الشعبي، مما يهيئ مناخا من الخوف والعداء، يجعلان الصراع المسلح الأوسع أكثر احتمالية.
لا يمكن أن تستأثر العوامل السياسية وحدها بالمؤشرات التنبؤية عن اقتراب لحظة الانفجار الحاسمة، فالحالة الاقتصادية التي تعاني منها الدول الصناعية بسبب جائحة كورونا، وأزمات الطاقة تثخن في المجتمعات الغربية تحديدا، وتوجه أكبر اقتصادات العالم، أمريكا، إلى فرض الحمائية، وفرض الحواجز التجارية أو العقوبات سيلحق الضرر بالعلاقات الاقتصادية بين البلدان، ويسهم في تصاعد حدة العدائية، مما سيخلق متاعب اقتصادية على مستوى العالم، ولن تتضرر منه الصين وحدها، وإنما المنظومة الاقتصادية العالمية التي ربطت العولمة أطرافها ببعضها على مدى عقود. ارتفاع نسب التضخم، وشح الموارد، وانهيار العولمة الاقتصادية ستؤدي لا محالة إلى الاضطرابات الاجتماعية وعدم الاستقرار السياسي، مما يجعل البلدان أكثر عرضة لعدوى القومية العدوانية وإغراء الحرب كحل للمشكلات الداخلية. إن الوصول إلى المواد الخام والأسواق، تاريخيا، كان محركا رئيسا للصراع، ويمكن أن تشتد المنافسة على هذه الموارد خلال أوقات عدم اليقين الاقتصادي والسياسي.
نحن نعيش عالما يمر بمنعطفات وتحولات خطيرة ليس سياسيا واقتصاديا فحسب وإنما تكتفنه انقسامات عميقة داخل المجتمع الواحد، في الأغلب على أسس سياسية أو عرقية أو دينية، تشكل ظروفا تصبح معها التسوية والحل السلمي للنزاعات أكثر صعوبة، خاصة عندما تكون هذه الانقسامات الحادة في بلد يحكم العالم وهو الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد أفرزت الحرب الإسرائيلية على غزة خطابا مقيتا له أتباعه تمثل في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، وتصويرهم على أنهم أدنى مستوى من البشر، أو فصيلة بشرية شريرة بطبيعتها، وذلك لتبرير وإضفاء الشرعية على إبادتهم. لن يكون تصرف كهذا إلا حلقة في سلسلة من المظالم المتراكمة عبر التاريخ، والتي تغذي الاستياء والسخط العام الذي يخلف إرثا من المرارة يؤجج الصراعات المستقبلية، والرغبة في الثأر.
وإذا كانت المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تنذر بشر قد اقترب، فإن سباقات التسلح وبناء المجهود العسكري يمكن أن يرفع وتيرة المخاوف من حروب الدمار الشامل؛ فحلف الناتو اتخذ قرارات تسمح لأوكرانيا باستخدام أسلحة غربية متقدمة لضرب العمق الروسي، كما أن روسيا أعلنت عن منظومة صواريخ باليستية مدمرة، وزيادة حادة في الإنفاق العسكري وتطوير تقنيات الأسلحة الجديدة، وفي ظني أن ميدان المعركة يتم إعداده في الشرق الأوسط بعيدا عن حدود القوى العظمى المتصارعة.