د.حادي العنزي
إذا كُنت في الرياض أو حتى جدة أو الدمام فأنت تُعاني الازدحام المروري، وتقضي ساعات يومك في زحمة الطرقات، وبالتأكيد ستكون مرهقا عقلياً ونفسياً، حيث أكدت دراسات حديثة أن قضاء ساعات يومية طويلة في زحمة الطرق يرفع مستويات هرمونات التوتر، وأن الازدحام المروري يُفاقم مشاعر الإحباط والعجز عند الأفراد بسبب حجزهم في الطريق وعدم قدرتهم على التحرك والوصول إلى المكان الذي يتجهون إليه، إذ يشعرون بأنهم غير قادرين على السيطرة على وقتهم، وبسبب هذا الإحساس المستمر بالعجز تظهر عندهم مشكلات نفسية تتجاوز القلق المؤقت إلى مشاعر دائمة من الاستياء والإحباط، حيث يُعاني حوالي (80 %) من الأشخاص من التوتر، ويشعر (74 %) منهم بالعصبية نتيجة المشكلات المرورية والتنموية.
وتؤكد الإحصاءات العالمية أن (52 %) من المتأثرين بالزحام تظهر عليهم مشاعر عدوانية، قد تنتقل معهم إلى المنزل والعمل كما يؤثر ذلك على إنتاجيتهم وعلاقاتهم الأسرية الإيجابية؛ بسبب أنهم يعيشون تحت ضغط نفسي كبير يُعرضهم للإصابة بالاكتئاب والأمراض النفسية الأخرى.
ووفقًا للمسح الوطني السعودي للصحة النفسية، فقد بلغت نسبة انتشار أعراض الاكتئاب (12.7 %) في 2022، وربما يكون الازدحام المروري عاملاً إضافياً يزيد من أعراض الاكتئاب.
والازدحام في الرياض لا يحتاج إلى أرقام وإحصاءات تكشف عنه، إذ أصبح ظاهرة مستمرة على مدار اليوم تُزعج السكان والسياح وتُسهم في زيادة الانفعالات والاضطرابات النفسية.
وما نراه يومياً من سلوكيات غير مسؤولة تصدر من (بعض) قائدي السيارات يؤكد ضرورة تدخل المختصين في علم النفس والاجتماع لدراسة هذه الظاهرة وبعمق.
الأرقام مخيفة والإحصاءات مزعجة، وتتطلب مواجهة تعقيدات الازدحام والإسراع في تقديم حلول هندسية وتنظيمية متكاملة على المدى القصير والطويل؛ تتمثل في تحسين البنية التحتية، وتعزيز النقل العام، بالإضافة إلى أن توحيد الجهود بين الجهات المعنية خطوة أساسية لتحسين جودة الحياة وتحقيق رؤية الرياض المستقبلية.
كما يجب على شركات القطاع الخاص أن تُشارك وبفاعلية ضمن مسؤوليتها الاجتماعية في التوعية وتقديم العلاج الناجع لمن تضرروا من الازدحام المروري نفسياً وأن يقدموا برامج توعوية ويسهمون مع الجهات الخدمية في استحداث حلول مبتكرة لمواجهة الاكتظاظ السكاني في المدن.
الأمر لا يقف عند زحمة السيارات ومشاكل المرور، بل يتعدى إلى المطارات التي تُعاني أيضاً من الازدحام، حيث يُعد مطار الملك خالد الدولي في الرياض ومطار جدة الدولي من أكثر المطارات ازدحاماً في عام 2023، فقد سجل مطار الملك خالد الدولي أكثر من (30) مليون مسافر، مما جعله واحداً من أكثر المطارات ازدحاماً في المملكة. وفي هذا المطار يقضي المسافرون في المتوسط ساعة ونصف في الانتظار قبل رحلاتهم، ويزداد ذلك خلال أوقات الذروة.
كما يتوقع أن يرتفع عدد الرحلات الجوية بنسبة (15 %) سنوياً حتى عام 2025، مما يُعزز الحاجة إلى تحسين البنية التحتية للمطارات والعمل بكل الإمكانات للقضاء على مشكلة الازدحام في المطارات وعلى الطرقات.
مع هذه المعطيات التي أحدثتها التنمية الإيجابية، يُلاحظ وجود جهود واضحة لفك الاختناقات المرورية وتخفيف الازدحام عن المدن أو المطارات، لأن مشكلة الاكتظاظ السكاني ليست محلية، وإنما عالمية، فالكل يُعاني ويحاول تقديم حلول تُخفف -على الأقل- من هذه المشكلة خاصة في الدول ذات المدن والمطارات الجاذبة للناس.
في الأسبوع الماضي شرعت المملكة في حل جذري ومتكامل لمشكلة الازدحام المروري تمثل في افتتاح -الوالد - الملك سلمان بن عبد العزيز لمشروع «قطار الرياض»، الذي عُدّ أحد أكبر مشروعات النقل العام في العالم، ويمتد المشروع على (176) كيلومتراً ويشمل (85) محطة، منها(أربع) محطات رئيسية. ويُتوقع أن يستوعب «قطار الرياض» حوالي (3.6) مليون راكب يومياً، مما يُخفف الضغط عن الطرق وفي المدن ويقلل الازدحام من المطارات؛ وهذا تحوّل ملموس في وسائل النقل المستخدمة، ويعكس أيضاً التحولات الاجتماعية والثقافية التي يمرّ بها المجتمع السعودي نتيجة للإصلاحات الأخيرة التي شملت مختلف نواحي الحياة وضغطت على حركة النقل داخل المملكة، مما استدعى إعادة النظر في وسائل المواصلات وبناء وسيلة جديدة وشبكة حديثة تواكب خطط التنمية ومشاريع رؤية المملكة 2030 حتى تُحدث التوازن مع التنمية وتواكب الحياة العصرية والاستمتاع بالرفاهية.
فقد كان النقل في بداياته بالمملكة يعتمد على السير على الأقدام والجِمال كوسيلةٍ رئيسة للتنقل عبر الصحراء وبين القرى، حيث كانت المسافات طويلة والطرق وعرة.
ومع مرور الوقت، بدأت هذه الوسائل التقليدية تتطور، وظهرت خيارات جديدة مع دخول السيارات إلى البلاد في الأربعينيات إذ أصبحت السيارات تُمثل رمزاً للحداثة والرفاهية. ومع تزايد عدد السيارات، بدأ السعوديون يتجهون بشكلٍ متزايد نحو استخدامها، وتشير العديد من الروايات الشفوية إلى أن امتلاك السيارة في المجتمع آنذاك يُعد علامة على النجاح.
ومع مرور الوقت، اتجه السعوديون نحو الطيران كوسيلة نقل أسرع وأكثر كفاءة من السيارات، وفي عام 1945 أُسست الخطوط الجوية العربية السعودية، مما أسهم في ربط المدن الكبرى ببعضها البعض، وأصبحت الطائرات تُستخدم بشكلٍ واسع للسفر بين المدن، خاصة وأن المسافات بين بعض المناطق قد تصل إلى آلاف الكيلومترات.
ومع تزايد عدد الرحلات، أصبح السفر جواً جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية للسعوديين، ومعه بدأ الضغط يتزايد على المطارات مثله مثل اكتظاظ الشوارع والطرقات بالسيارات، وكان الحل الأمثل والأنسب في القضاء على الزحمة بالمطارات وفي الطرقات يكمن في استثمار الحكومة في مشروعات النقل بالسكك الحديدية، وذلك بتعزيز النقل العام وتوفير خيارات مريحة وسريعة.
وقد سبقتنا عدّة دول إلى هذا الحل وأصبحت رائدة في نظام النقل بالسكك الحديد، فاليابان على سبيل المثال كانت تُعاني زحام مروري كثيف، مما دفع الحكومة إلى الاستثمار في تطوير شبكة السكك الحديد، والآن يعتمد حوالي (60 %) من السكان على القطارات اليومية.
أيضاً ألمانيا واجهت تحديات مشابهة في النقل الحضري في السبعينيات والثمانينيات، وحالياً يُعد نظام النقل العام في المدن الألمانية من الأكثر كفاءة في العالم، وكذلك في فرنسا وهولندا وسنغافورة وكندا وغيرها من الدول المتقدمة التي واجهت الكثافة السكانية العالية بتطوير وتوسيع شبكة النقل العام، مما سهل عمليات التنقل بين المدن وقلل ساعات هدر الوقت وساهم أكثر في تقليل الحوادث المرورية.
وعلى المستوى الوطني فإن مشروعات النقل بالقطار في المملكة تُعد إحدى ثمار رؤية 2030، التي تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة وتعزيز جودة الحياة؛ فرؤية المملكة شجعت على استثمار مليارات الريالات في تطوير البنية التحتية، بما في ذلك السكك الحديد، ومن أبرز نتائج ذلك إنشاء مشروعات مثل «قطار الحرمين» و»قطار الرياض».
إن دخول المملكة في عصر القطارات يُمثل خطوة جريئة نحو المستقبل، ويُتوقع أن تُحدث هذه المشروعات تحولاً كبيراً في نمط حياتنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، حيث تشير التوقعات إلى أن استخدام القطارات سوف يقلل من الازدحام المروري بنسبة تصل إلى (30 %) في المدن الكبرى.
كما يتوقع أن يتجه حوالي (65 %) من المواطنين نحو استخدام القطارات، خاصةً مع تزايد الوعي بالمزايا البيئية والاقتصادية.
ومع استمرار المشروعات الكبرى، مثل قطار الرياض، ستُعزز الحكومة من بنية النقل العامة، وهذا يُشجع المزيد من السكان على استخدام القطارات التي تُعد من الوسائل الأكثر استدامة مقارنة بوسائل النقل الأخرى، مما يتماشى مع أهداف الرؤية في الحفاظ على البيئة وتحقيق التنمية المستدامة.
يُمكننا القول إن تطور وسائل النقل في المملكة قصة نجاح مُستمرة تُظهر اهتمام القيادة بمواجهة مختلف التحديات لربط المدن مع بعضها البعض، وهذا يصنع المزيد من التغيرات الإيجابية وفي مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ثم إن الشعب السعودي استطاع ومنذ المراحل الأولى لتأسيس الدولة تكييف حياته الاجتماعية والثقافية مع خطط التنمية والامتثال لها، وكان سريع التأقلم والتغير الإيجابي، فهو وخلال سنوات قليلة استطاع الانتقال من وسيلة التنقل بالجِمال إلى الطائرات ثم القطارات، مما يؤكد أن رحلة القطارات ستكون الأكثر جذباً في المستقبل، وسوف تتفوق على الطائرات والسيارات بما تملكه من ميزات في المرونة والوقت والسرعة وقلة التكلفة، بالإضافة إلى الراحة والسهولة في إجراءات السفر وتقليل ساعات الانتظار.