م. بدر بن ناصر الحمدان
في صباح يوم بارد وممطر من شتاء 2024م، ركبت قطار الرياض عبر المسار الأزرق في طريقي من المنزل إلى وسط المدينة لقضاء بعض من الوقت كعادتي في نهاية كل أسبوع بعد أيام عمل مثقلة، محطة الذهاب مزدحمة بالناس، أطفال ونساء ورجال، محليون وزائرون وعابرون، كل له وجهته، صدى الإعلان عن الرحلات المغادرة يملأ المكان، ركبت العربة وبالكاد وجدت مساحة على الأرض أقف عليها بقدميَّ.
تشبثت بذلك المقبض المعدني لحفظ توازني، ولالتقاط أنفاسي، انطلقنا بسرعة البرق، صوت القطار القادم من الخارج أشبه بسلم موسيقي، مزيج سماعي بين صدى دخوله لنفق وخروجه منه، تفصله مقاطع صامتة عند عبوره مساراً آخر، أو توقفه عند محطة وانطلاقته منها، سيمفونية تعوّدت عليها، لم أعد بحاجة لسماع أسماء تلك المحطات أو مشاهدة شاشة عرضها عند الوصول، أصبح لدي الخبرة الكافية مع مرور الزمن لأعرف أين أنا من نغمة صدى الأماكن التي يمر بها القطار.
يقف بجانبي رجل يبدو من ملامحه وقبعة الخوص المجدول التي يرتديها وسيجارته الكوبية أنه قادم من خليج المكسيك، يتمتم بلحن داخلي، أقرب ما يكون لمقدمة أفلام رعاة البقر، في الجوار شاب وفتاة يتبادلان حديثاً رومانسياً من فحواه خُيِّل لي أنهما عريسان قدما لقضاء شهر العسل في العاصمة الرياض، في الجانب الآخر من العربة مرشدة سعودية تساعد مجموعة من السائحين الأوربيين حول وجهتهم القادمة، يجلس أمامي رجل سبق أن التقيته يوماً فوق جسر ولكن لا أدري أين ومتى. توقف القطار، ونزلت في المحطة القريبة من الجادة الرئيسة بوسط الرياض وانطلقنا إلى ذلك الفضاء العمراني وكأننا أسراب من الطيور للتو خرجت من أقفاصها، هنا المكان الأكثر ازدحاماً على مستوى المدينة والذي لا يسمح بدخول المركبات إليه قطعياً، كل ردهة منه تعج بالناس القادمين من كل بلاد الأرض، المقاهي والمطاعم والمراكز التجارية والثقافية والمسارح ودور السينما ومعارض الفنون وممرات المشي والساحات والفعاليات المفتوحة والفنادق حولت المكان إلى وجهة سياحية راقية تحتضنها قصور وسط الرياض ومحيطها العمراني التي تم إعادة تأهيلها بشكل مذهل، لقد عادت الحياة إلى ذلك المكان بعد أن هجره سكانه لسنوات.
في نهاية ذلك اليوم الطويل والمفعم عدت أدراجي مع آخر رحلة للقطار، تؤرِّقني ذاكرة المكان، أنوار الشوارع المتسلِّلة من نوافذه ترسم لوحة تجريدية على الوجوه المختلفة في موطنها وأعراقها، المتفقة في ثقافتها وتعايشها مع الآخر، لقد كانت العربة الأولى من هذا الحلم.