د. تنيضب الفايدي
لا توجد في المدينة النبوية أي عين طبيعية، فالمدينة النبوية شحيحة الماء حيث ورد من صفاتها بأنها شحيحة الماء، قليلة المطر، فلا توجد بها أي عين من العيون، ولكن يطلق العامة على المناهل داخل المدينة النبوية عيونا، (والمنهل مكان تجمع الماء الذي يأتي من قباء عن طريق مجرى معمول وفق هندسة معينة بالصخور)، وبمتابعة بعض ما كتب عن العيون نجد أن تلك العيون عبارة عن مناهل مدت لها القناطر من آبار حول قباء، وجمعت مياه تلك الآبار في بئر واحدة وسميت العين الزرقاء، ووزع الماء من خلال قناطر تحت الأرض واعتقد الناس بأنها عيون، بينما أتى الماء من الآبار التي أنشئت لذلك بقباء وهذا هو المراد بقول السمهودي: «ويذكر أنه كان بالمدينة وما حولها عيون كثيرة تجددت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لمعاوية رضي الله عنه اهتمام بهذا الباب، ولهذا كثرت في أيامه الغلال بأراضي المدينة». وهذا خطأ تاريخي كتبه السمهودي ونقل عنه الآخرون.
وتعد العين الزرقاء المصدر الأساسي للماء داخل المدينة المنورة من عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وحتى عهد قريب، فقد أجرى مروان بن الحكم أمير المدينة المنورة رحمه الله في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وبأمره أجرى الماء من مجموعة آبار في قباء التي تبعد عن المدينة آنذاك ما يقارب ثلاثة أميال، وذلك ضمن قنوات محكمة داخل الأرض بعمق يراوح ما بين 4 أمتار إلى 6 أمتار، وذلك للمحافظة على نظافة المياه وعدم تلوثها، من آبار غربي مسجد قباء، ومن هذه الآبار بئر أريس وبئر عذق وجعل لها عدة مناهل داخل المدينة، ينزل إليها بدرج، منها منهل بالمصلى (مسجد الغمامة)، ومنهل بالقرب من باب السلام، ومنهلان بالساحة، ومنهلان بالزكي، اشتهر أحدهما بـ(عين الزكي) إلى وقت قريب، كما وصلت العين الزرقاء إلى سيد الشهداء، حيث عمل منهل هناك. وماء العين الأزرق ينساب بانخفاض متدرج من قباء حتى آخر عين من العيون وهذا يتطلب جهدا ومهارة، وللقارئ أن يتصور مدى ما بذل من جهد حيث يأتي الماء إلى سيد الشهداء (أكثر من سبعة كيلومترات) ثم إلى منطقة العيون غرب جبل أحد عن طريق الميول الهندسية، وسميت العيون لقرب الماء عند حفر البئر ولوجود بعض المناهل قديما؛ لأن الحقيقة تثبت بأنه لا توجد بالمدينة أي عين.
وقد أطلق على (العين) عين الأزرق نسبة إلى مروان بن الحكم أمير المدينة لزرقة في عينيه فغلب عليها اسم (العين الزرقاء)، وذهب البعض إلى عدم صحة هذا القول؛ لأن كتب التراجم والإعلام لم تذكر بأن مروان بن الحكم كان أزرق العينين، فقالوا في سبب تسمية العين بالزرقاء بأن مياه العين الزرقاء تشبه في لونها مياه النيل الأزرق، ومن أصحاب هذا الرأي محمد بن كبريت الحسيني، وقيل: سميت بالزرقاء؛ لأن مصدرها هو بئر الأزرق غرب مسجد قباء في حديقة الجعفرية.
وقد ذكرها كثير من المؤرخين والرحالة، حيث ذكرها ابن بطوطة في رحلته الشهيرة المسماة: (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) فقد ذكر أحد مناهلها حيث قال: «وبمقربة من باب السلام سقاية ينزل إليها على درج ماؤها معين وتعرف بالعين الزرقاء».
كما ذكرها الرحالة محمد لبيب البتانوني، في كتابه (الرحلة الحجازية) فقد كتب: وأهل المدينة يشربون من آبار كثيرة، ولكن ماؤها الذي عليه مدار سقياها يأتي إليها من مواسير من عين غربي مسجد قباء وهذه العين تسمى العين الزرقاء نسبة إلى مروان بن الحكم الذي أجراها بأمر معاوية رضي الله عنه، وقت أن كان عاملا له على المدينة وكان يسمى الأزرق لزرقة عينيه وماؤها عذب لذيذ.
وهي موضع عناية كل الملوك والسلاطين إلى هذا الزمان وقد تفرع منها فروع كثيرة في جهات المدينة ولها خزانات تنزل عن سطح الأرض بنحو عشرة أمتار يملأ منها السقاؤون وينزل إليها بسلالم من حجر، وهناك عيون أخرى اتصلت بها لتزيد ماؤها مثل عين النبي صلى الله عليه وسلم التي في جهة قباء).
والعين الزرقاء من محاسن المدينة منهل السوق في الرحبة التي عند باب السلام، فإنه يستقي منه أكثر أهل المدينة السنية، الذي ساقها إلى ذلك الموضع الحسين بن أبي الهيجاء في حدود الستين وخمسمائة، وجعل لها درجا متسعا.
وتتميز مياه العين الزرقاء بعذوبتها، حيث ذكر العياشي في رحلته المشهورة: «وهذه العين المباركة من أغزر العيون وأحلاها ماء وألذه، بل هي جل انتفاع أهل المدينة». وأورد العياشي في موضع آخر قائلا: «ومنها (أي: العين الزرقاء) تملأ الدوارق التي بالحرم الشريف للشرب، وهي لا تكاد تحصى كثرة، فما أعظم بركتها وأوسع نفعها، ولقد شاهدت من يستشفي بمائها فيشفى، وقد حملنا بعض مائها للاستشفاء».
كما أشار إبراهيم رفعت باشا في كتابه (مرآة الحرمين) إلى أهمية مياه العين بقوله: «ومن مياه العين الزرقاء تملأ الدوارق التي بالمسجد النبوي والتي لا تحصى كثرة، ويشرب منها الناس، ويطوف ببعضها طائفون»، كما أعطى لمحة موجزة عن تلك البساتين والأسبلة التي تستقى من مياه العين الزرقاء.
وقد أورد المطري (القرن الثامن الهجري) وصفا كاملا لطريق العين الزرقاء ومناهلها المنتشرة حول المدينة المنورة حيث أشار إلى أن العين تنطلق من بئر كبيرة غرب مسجد قباء، وتجري إلى المصلى، وعليها هناك قبة كبيرة مقسومة إلى نصفين، يخرج الماء منها في وجهين مدرجين، قبلي (شرقي) وشمالي، أما القسم الشرقي من العين فينطلق من المصلى حتى يصل إلى باب السلام، حيث المنهل الذي بناه الأمير سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء، ومنه إلى داخل ضمن المسجد النبوي الشريف، فيخرج الماء من فوارة، وقد حصل انتهاك لحرمة المسجد من كشف العورات والاستنجاء في المسجد فسدت.
أما القسم الشمالي من العين، فيخرج من قبلة المصلى أيضا، متجها نحو الشمال حتى يصل إلى سور المدينة، فيتجاوزه من تحت سطح الأرض إلى منهل بوجهين مدرجين عند رحبة حصن الأمير، ثم تخرج قناة العين إلى خارج المدينة المنورة، لتصل إلى منهل ذي وجهين مدرجين أيضا بالقرب من مشهد ذي النفس الزكية، ثم تخرج من هناك وتجتمع هي وما يتحصل من قناة القسم الشرقي في قناة واحدة تنطلق نحو البركة التي ينزلها الحجاج.
كما ذكرت في المغانم المطابة في معالم طابة للمجد في بداية القرن الثامن الهجري حيث قال: «وأصلها من بئر معروفة بقباء، غربي المسجد، في حديقة نخل، وهي بئر واسعة الأرجاء، محكمة البناء، متقنة الأطواء، متوسطة الرشاء، عذبة الماء، يظهر منها هذا الماء الكثير، ويجري في أقتاء تحت الأرض إلى المصلى.
وقال السيد جعفر بن السيد إسماعيل البرزنجي المدني في كتابه «نزهة الناظرين في مسجد سيد الأولين والآخرين) ما نصه: «والعين الزرقاء أصلها من غربي مسجد قباء من البئر المعروفة بالجعفرية ثم أضيف إليها في مختلف الأزمان ثلاث آبار، بئر النبي صلى الله عليه وسلم وبئر الرباط والتي في بئر عذق وعليها هنالك قبة يخرج منها الماء في وجهين قبلي وغربي وهي تجري شمالا إلى المصلى، أعني مسجد الغمامة ولها هناك منهلان».
كما ذكرت العين الزرقاء في كتاب دائرة المعارف في القرن العشرين أو الرابع عشر فقد ورد فيها: (وفي قباء بئر يسمونها بئر الخاتم وهي (بئر أريس) التي وقع فيها خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو خليفة، وكانوا لذلك الوقت يختمون به على مكاتباتهم وكان نقشه «محمد رسول الله» وماء المدينة الذي عليه مدار سقياها من العين الزرقاء ومحبيها التي توجد غربي مسجد قباء، وماؤها عذب لذيذ).
وقد وردت العين الزرقاء في بعض شعر مؤرخيه ومحبيها. قال الشاعر:
مدينة خير الخلق تحلو لناظري
فلا تعذلوني إن فتنت بها عشقا
يقولون: في زرق العيون شآمة
وعندي أن اليمن في عينها الزرقا
يقول محمد كبريت:
قد أتينا الحوراء في يوم حر
شمسه كالعقيقة الحمراء
وشربنا مياهه وحمدنا
إذ عرفنا فضيلة الزرقاء
وقال القيراطي:
ما لعين سوداء من نصيب
بعد حبي لعينها الزرقاء
أي زرقاء بان لي من سناها
ما اختفى نوره عن الزرقاء؟
يقول أبو عبدالله الفيومي:
سكان طيبة أبلى الحب صبكم
والشوق باق ليوم العرض في طول
تالله لم ينسه المقياس روضتكم
ولا تسلى عن الزرقاء بالنيل
وقال شاعر آخر:
لا يرتوى صادى الهوى إلا إذا
لحظته منها عينها الزرقاء
وتطلق العرب اللون الأزرق على السماء قال الشاعر:
ولقد ذكرتك والظلام كأنه
يوم النوى، وفؤاد من لم يعشق
وكأن أجرام النجوم لوامعا
درر نثرن على بساط أزرق
والفجر فيه كأنه قطر الندى
ينهل من ثبج الغمام المغدق
كما أن اللون الأزرق من ألوان خمر النساء (الخمر جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها) ويكون هذا الخمار عادة أسود أو أحمر أو أزرق، قال الشاعر:
قل للمليحة في الخمار الأزرق
ماذا فعلت بناسك مستغرق
قد كان شمر للصلاة ثيابه
حتى وقفت له بكل تأنق
قد ضاع منه صلاته وصيامه
وأصبت منه براءة القلب التقي
فمضى يصفق للقا متزودا
من نور وجهك، فاسفري، وتدفقي
وعادة يكون اللون الأزرق لونا من الجمال خاصة في عيون المرأة، وقد تكون العيون الزرقاء أشد بصرا مثل زرقاء اليمامة.
وكما قلت بأن ماء العين الزرقاء يسير إلى المدينة في قناة مبنية بناء متينا، وبهذا ترى أن مياه هذه العين نظيفة وبعيدة عن التلوث وهو السبب الوحيد في عدم تعرض المدينة في الأغلب إلى الأوبئة التي تحصل في الجهات الأخرى من بلاد العرب، وهذه العين كان يقوم بتعميرها أمراء المسلمين وقد تخربت في أوائل الحكم العثماني ومكث أهل المدينة زمنا طويلا وهو في ضيق شديد حتى عمرها السلطان سليمان سنة 923هـ، ثم جرفها السيل فأمر بتعميرها السلطان مراد خان واشترى بئر الغربال وألحقها بها.
وفي العهد السعودي الميمون فقد اعتنت الحكومة الرشيدة بماء العين الزرقاء وما يجاورها من آبار فجعلت الماء ينزل من قباء إلى المدينة المنورة بواسطة أنابيب حديدية (22بوصة) بدلا من القناة السابقة وعملت شبكة داخلية لتوزيع الماء داخل المدينة وعممت المناهل في كل أنحاء المدينة، كما تم إنشاء خزانين كبيرين عند العين أي: عند منبعها بقباء، كما ضربت الآبار الارتوازية وركبت المكائن الضخمة عند منبع العين بقباء لملء الخزانين وأصبح سكان المدينة يستمتعون بالماء.
وهكذا بقي تاريخ هذه العين مقترنا بتاريخ المدينة حتى قارب 1400 عام، فكلما ذكر تاريخ سقيا المدينة تذكر العين الزرقاء...
هواي طيبة لا بيضاء عطبول
منيتي عينها الزرقاء لا النيل
بعض المراجع:
التعريف بما آنست الهجرة للمطري، الرحلة الحجازية للبتنوني، دائرة المعارف في القرن العشرين للوجدي فريد، الجواهر الثمينة للكبريت، رحلة الشتاء والصيف للموسوي، تاريخ طيبة في خير القرون للدكتور تنيضب الفايدي، التحفة الشماء في تاريخ العين الزرقاء للخياري، الأودية والآبار في مدينة المختار للدكتور تنيضب الفايدي.
1- خريطة لمجاري عين الزرقاء
2- هكذا يجتمع ماء العين الزرقاء بداخل منخفضات أرضية من عدة آبار وعيون منها: بئر عنق، بئر أريس، عين الرباط، عين الشلالين، عين بويرة، عين الغربال، عين السدرة، عين القليجة، عين السقاف. (العين هنا تعني البئر)
3- مبنى العين الزرقاء أمام باب السلام
4- المدينة المنورة - منابع العين الزرقاء - قباء قديماً
5- المدينة المنورة - أحد منابع العين الزرقاء (قديماً)
6- أحد منابع العين الزرقاء بقباء يصل بين المنهلين الدبل المرصوف بالصخور تحت الأرض
7- مياه الشرب تصل من العين الزرقاء بواسطة قنوات تسمى الدبول
8- إحدى الآبار في منطقة المدينة المنورة وكانت هي من أهم الوسائل لشرب المياه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.