رقية نبيل عبيد
يقول أهل الألفينيات «أواه كم كان زمن الثمانينات جميلًا عذبًا»، ويومًا ما قال أهل الثمانينات «آه لو تعود الدنيا بخير كما كنا في الستينات»، ومرّ يومًا كهول الستينات بشبابه فقالوا في أسف «ما كنا نشاهد هذا الشباب الرقيع في أيام صبانا، أواه على زمن العشرينات الجميل»، وحملقت ذات صباح امرأة ترتدي فستانًا طويلًا جميلًا إلى قبعة حديثة تعتمرها شابة صغيرة وتنهدت بانزعاج «من الأخرق الذي أطلق موضة القبعات هذه، آه لو أعود إلى عتبات القرن الذي مضى فمنذ دخلنا القرن العشرين ونحن في انحدار»!
لطالما عشق البشر الماضي، لطالما تذكروه مضيئًا نقيًا رقراقًا، لا تلوثه الخطيئة ولا يعرف أناسه خلا الضحكات الصافية والوداد الحقيقي، وغالبًا ذكرياتنا هي المذنبة هنا، إن الذكريات خداعة فهي تريك الحياة دون مرارتها، دون آلامها ومثالبها التي كانت، الذكريات تغربل الماضي وتطبعه في أذهاننا مشرقًا كلوحة ربيعية زاهية، هكذا أقرأ اليوم للكاتب الإنجليزي إدوارد مورغان فورستر الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر لكنه اختار أن يكتب عن ستينات زمنه، لأنه وكما رآهم أناس هذا الماضي كانوا أنقى من زمنه وأجدر بالملاحظة من التافهين الذين أحاطوا به في العصر الحديث جدًا جدًا الذي يعيشه!
هكذا ولدت روايته الخالدة «المنزل الريفي».
أليس من العجيب أن تلقى نفسك متضافرا روحًا وكيانًا مع امرأة عاشت قبلك بمائتي عام؟ أم أنه من العجيب أن الذي قربها إليك لهذا الحد وكشف لك بواطن نفسها وأدق خبيئات قلبها وبسط دونك روحها عارية مكشوفة بكل وسواسها وهواجسها وإيماناتها وأفكارها، الذي فعل كل هذا هو رجل! غير أنه أديب وكاتب، ليس من الغريب أن تكون بطلة كاتب هي أنثى، لكنها ربما المرة الأولى التي أجد فيها الكاتب يقتحم أدق وأخفى أسرار هذه الأنثى بهذا العمق ويهدّ كل حصونها ويفحص خلايا الروح منها!
مارغريت كانت تختلف عن هيلين وتختلف كذلك عن الشقيق الأصغر تيبلي، هيلين مُنحت الجمال، وجمالها غالبًا ما دفعها للطيش والهيام بنظرات الهيام بها، فيما وُهبت مارغريت قلبًا سليمًا وفطرة حنونة وبديهة وقادة، وبسبب من هذه العجينة الطيبة المختمرة في حناياها حظيت بقصة حب جميلة هادئة ليس للصبابة أو الجنون أي دور فيها، بل الرقة والحنوّ والانتظار الصبور المّكلّل بالشهد آخرًا.
كانت السيدة ويلكوكس زوجة مخلصة وأم رؤوم وامرأة بارة، رضيت بحياة كاملة تقبع في الظلال ولا تحتل أبدًا المقاعد الأمامية من أي حدث مهم في حياة أولادها، لكنها مع ذلك حظيت بمحبة الجميع وعطف الزوج، ولربما كانت حديقة المنزل البقعة الوحيدة التي انعكست فيها روحها بصدق، مرضت السيدة وانشغل عنها الجميع بعمل أو بآخر وكانت مارغريت وخلال أسبوعين الرفيقة المثلى لها، وفي خلال هذا الوقت الوحيد استشفت من روح السيدة ما لم يعرفه عنها زوجها وبنيها طوال حياتها، ما لمسني بصدق أن المرأة كانت راضية بحق، راضية عن قناعة، لكن ظلت هناك أمور عالقة في الهواء تحبسها في صدرها ولا تخبر بها أحدًا ليس خوفًا من عواقبها ولكن لأنها أمور هلامية غامضة لم يتسنّ لها هي نفسها أن تفهم كنهها أو أن تُظهرها جلية واضحة في ضوء شمس الصباح، كانت نوعًا من الأحلام التي تزاورنا بعد الكرى فور أن نفيق ونفتح أعيننا في ضوء الفجر الباهت، نرى ما حلمنا به يومًا وما استغرقنا كثيرا ونحن أطفال بعد، بضعة نثارات إيمانية أغلقنا عليها قلوبنا ولم نروِها قط لأحدهم، ولهذا وبعد رحيلها المفاجئ ما كان أحد بنيها يتوقع أن تلتمس منهم في سرية وقبيل وفاتها منح منزلها للآنسة مارغريت! كان منزل السيدة الريفي العريق هو روحها الحقيقية ومآل الأحلام والتطلعات البعيدة التي دفنتها في أرضه، الأحلام التي قُدر لمارغريت بشفافية روحها وقدرتها الثاقبة على فهم البشر أن تتكشف لها هي وحدها، وبقيت أمنيتها الأخيرة تلك عالقة في غبار الأيام، وتُسلّمها من غروب لشروق، وكان مكتوبّ لها أن تتحقق بكل الطرق ودون تكلف مهما طال الوقت واستطال.
لقد ورث الكاتب عن آبائه ما يناهز ثمانية آلاف جنيه، وهو مبلغ وقتها جسيم، وكانت مارغريت تمثل وجهة نظره في هذا الغنى حيث كانت تجزع دومًا لحال الفقراء الذين «حُبسوا» في بقعة واحدة من الأرض غير قادرين أبدًا على التنقل لرؤية أجزاء جديدة من هذا العالم الواسع، غير قادرين على مزاورة أحبابهم بسهولة، غير قادرين على مغادرة جدران المنزل الضيق إلى آخر، لكن حين كان أحدهم يسألها «هل تحبذين إذًا أن تولدي مع الفقراء لتحسّين بمعاناتهم «كانت تهتف بمرح «كلا بالطبع أنا مع الغنى، يحيا الغنى»! في إشارة إلى أن استمتاع المرء بالثراء لا يعني أن يكون جافًا فقير المشاعر حيال هؤلاء الذين حُرموا هذه النعمة.
أما فورستر قد يكون الكاتب الوحيد الذي استطاع أن يجمع في أسلوبه الأدبي القدامى والحداثة معًا، فألفاظه جزلة فخمة وبراعته الأدبية لا غبار عليها على غرار القدماء لكن كلماته أيضًا كانت ملونة نابضة بالحياة وسخريته اللاذعة ظهرت على ألسنة أبطاله، كما أن له جملًا ساحرة منثورة في شتى أرجاء الرواية، جملًا عميقة حبلى بالمعاني الجميلة، وهي إذ تجيء على لسان مارغريت الصريح العذب تغدو أشد سحرًا وبيانًا، أقتبس منها على سبيل المثال ما قالته في أثناء بحثها عن منزل جديد «يبدو أن الرجال يأسرون المنازل بالتنويم المغناطيسي فهم يحدجونها بنظرهم فإذا هي تقبل مرتجفة، بيد أن السيدات لا يستطعن ذلك، فالمنازل هي التي تنومهن مغناطيسيًا، وأنا لا سلطان لي على هذه الأشياء اللعوب، والمنازل حية أليس كذلك؟».
أو قولها وهي على وشك الزواج «ليس في نيتي أن أجعله هو أو أي رجل أو امرأة يستغرق حياتي، لا بحق السماء! فهناك أكداس من الأشياء داخل نفسي لا يفهمها، ولن يفهمها أبدًا»
هكذا بكل بساطة تتحدث امرأة عاشت قبل مائتي عام، واليوم تقول ابنة البارحة محبطة «هو لا يفهمني، لا يدرك أحلامي، لا يتبنى إيماني»، ومارغريت قبل مائتي عام تجيب أن لا بأس، ليس واجبًا أن يفهم كل ما هو منكِ، أو أن تفهمي كل ما هو منه، لا بأس بالاحتفاظ ببعض القوى الداخلية والآراء الشاذة غير المنطقية المتفردة، فكل هذا لا يمنع التفاهم، لا يحجب الود، وبالتأكيد لا يوأد حبًّا.
وكالعادة انتابني فضول أن أعيش مع هؤلاء القوم حياتهم وأعاين بعيني لندن في منتصف القرن التاسع عشر، وما رأيته أنهم ليسوا بأكثر حكمة منا ولا أكثر حمقًا كذلك، هم مثلنا، انتابتهم ذات الأفكار التي تنتابنا وداهمتهم ذات الأحزان التي ما فتئت تداهمنا وواجهتهم كل المعضلات الفكرية التي تواجهنا وما ننفك نناقشها ونلوكها تفكيرًا وجدالًا، غير أن الذوق الموسيقي والأدبي كان أرق ذائقة وأعظم نبلًا، في وقت كانت تُناقش فيه سيمفونية بيتهوفن الخامسة وتُعتبر روايات المغامرة والترحال فنًا لا يرقى بحال إلى الفنون الأدبية الأخرى، وكأنها تحاكي بعض السلال التلفازية والأفلام في عصرنا هذا، وليس معنى هذا أن الرواية كانت خلوًا من الإثارة فقد جاءتني لحظات اقشعرّ فيها جلدي لمرأى لندن شاخصة أمام ناظري بفعل كلمات الكاتب ووصفه المذهل لأنهارها وبلداتها وريفها وقطاراتها وضبابها ومراكبها.
يا تُرى، كيف تكون الحياة من منظور شخص عاش زهاء التسعين عامًا وشهد انصرام القرن الماضي حتى سبعينيات القرن الجديد؟
هذه المقطوعة الأدبية خرجت للدنيا عام 1910 وعكف الكاتب على كتابة فصولها في عام 1908، ولا أحسب أنه يمكن لمنتوج أدبي أن يصف عبور الحياة وتنوع أشخاصها واختلاف طبقات أناسها واختلاف حظوظهم إثر ذلك بأكثر مما عبّرت عنه هذه الرواية وسجّلته بين دفّتيها.