د. سامي بن عبدالله الدبيخي
إن جبال مكة ليست مجرد تكوينات صخرية جامدة ولا هي تضاريس هامدة، إنما هي شواهد تاريخية تختزن في طياتها ذاكرة المدينة وتحتضن هويتها وتعبر عن شخصيتها. وأي مساس بهذه التضاريس الجبلية بهدمها أو بتدخل عنيف عليها سيخدش ذاكرة المنطقة ويتلف جزءا من تراثها المادي المشحون بالرمزية الدينية والهوية الثقافية والأحداث التاريخية. هذا فضلا عن أهميتها الإيكولوجية في تشكيل جغرافية المنطقة والحفاظ على تنوعها البيئي واستدامتها وحماية المدينة من التأثيرات السلبية لبعض الظواهر الطبيعية كالعواصف الرملية وغيرها.
لا تسهم التضاريس الجبلية لمكة فقط في تحديد التشكيل الجغرافي للمدينة الذي يطبع شخصيتها ويميز شكلها عن غيرها من المدن الأخرى، وإنما أيضا في الحفاظ على التراث الثقافي والديني للمدينة لضمان استمرارية هويتها المميزة وشخصيتها الفريدة. وبهذا تعزز جبال مكة الرمزية الدينية للمدينة وصورتها الذهنية لدى جموع المسلمين في أرجاء المعمورة ليأتوها من كل فج عميق. فهذه التضاريس الجبلية ليست مجرد معالم طبيعية، بل هي شواهد لأحداث تاريخية محملة بقصص الأنبياء والصحابة مما يعزز قدسيتها في الوجدان الجمعي للمسلمين عبر العالم. وهو ما يضفي على المدينة وجبالها قدسية ورمزية دينية تشرئب إليها أعناق المسلمين ويتوقون لزيارتها ما استطاعوا لذلك سبيلا. وهذا ما يجعل منها أحد المقومات الأساسية للسياحة الدينية مما يدعم اقتصاد المدينة ويعزز جاذبيتها الثقافية وأهمية الحفاظ على هذا التراث المادي المشبع بالرمزية الدينية.
ويكفي في هذا الإطار أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر، جبل النور الذي يضم غار حراء حيث كان يتعبد النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وجبل ثور حيث الغار الذي اختبأ فيه مع صاحبه أبي بكر الصديق أثناء الهجرة. وكل حجر في جبال مكة يكاد ينطق بأحداث وشواهد تاريخية لها أهميتها في التاريخ الإسلامي. لهذا فإنه من الأهمية بمكان حماية هذا الإرث المادي والحفاظ على الهوية الدينية والثقافية لمكة. بل ينبغي العمل على الاستفادة منه في أنشطة الزيارات التاريخية وأنشطة السياحة الدينية التي تعد رافدا أساسيا لاقتصاد المدينة وجاذبيتها الثقافية.
إن الاهتمام بالجبال في المدن ظاهرة دولية لتعزيز الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فهناك عديد من المدن حول العالم آمنت بأهمية جبالها فحافظت عليها باعتبارها عنصرا أساسيا من هويتها ورمزا لشخصيتها. فمدينة كيب تاون بجنوب إفريقيا جعلت من جبل الطاولة Table Mountain أحد معالمها الرمزية ومزارا سياحيا يعكس هويتها. وعلى نفس المنوال احتفت مدينة بوغوتا (كولومبيا) بجبال الأنديز The Andes Mountains المحيطة بها كعنوان لشخصيتها ورمز لهويتها الثقافية. ونفس الأهمية أولتها مدينة أديلايد بأستراليا لجبالها The Adelaide Hills باعتبارها تضاريس تشكل شخصية المدينة وتعزز هويتها الثقافية وجاذبيتها السياحية. أما مدينة لوس أنجلوس بأمريكا فميزت شخصيتها بجبال سان غابرييل San Gabriel Mountains كجزء من هويتها الثقافية لتجذب إليها عديد من الأنشطة الخارجية كالمشي في التضاريس الجبلية والتخييم في أحضانها.