د. نوف بنت محمد الزير
تتنوع أحداث الحياة وتتعدد مساراتها، وتتباين شخصيات الناس فيها وفقًا للفكر الذي يحمله كل واحد منهم؛ وللنظرة التي يُقدِّرُ كل فرد من خلالها ما يسمعه ويراه ويستنشقه ويشعر به؛ فترى الموقف الواحد له تفاصيل وتركيب وتفسير وتقييم وتقويم يختلف فيه نظر كل شخص عن الآخر!
ومن ذلك ما يمكن أن نسميه التوثيق، وأعني به هنا: رصد وحفظ المعلومات والأحداث والمواقف وتمريرها بين الأجيال على صيغة تتشكل في ذهن من يسمعها أو يراها أو يقرأها تصوّرًا للبيئة والأشخاص والظروف والأجواء التي حدثت فيها!
إن ما يتناقله الناس عن حياتهم وأحداث التاريخ على مر العصور لا يخلو؛ إما أن يكون مسموعًا أو مقروءًا أو مصورًا صورًا فوتوغرافية أو مسجلًا على هيئة أفلام سمع بصرية.
فتسمع وتشاهد من بعضهم موقفًا: قصة أو قصيدة يرويها لك عن قائلها أو ناقلها أو الموجهة إليه، يتمثل فيها مشاعر مصاحبة لمعانيها، فيبتسم عندما تمر الكلمة المبهجة، ويحمرّ وجهه عندما يقول الكلمة الباعثة على الحياء، ويُقطّب حاجبيه عند الكلمات الجادة، ويومئ برأسه مبتهجًا في أجواء الموافقة والدهشة وربما ذرفتْ عيناه في مواقف الحزن والألم والفرح الشديد!!
وقد تراه واقفًا يحاكي حركة إقبال أحدهم، أو رافعًا يديه يشبر إلى أحد الأشخاص الموجودين أمامه وكأنه المذكور في الحدث الذي يتكلم عنه، وربما صب فلجان قهوة ليُريك كيف يُقدّم الفلجان للضيف وكيف يُعلمك الأخير بفعله: أنه اكتفى من القهوة!
إن الذي يروي مثل هذه الأمور بهذا الوصف التكاملي ويُبحر في تفاصيل الكلام لغة وشعورًا حتى لكأنه هو صاحب الموقف؛ لأن ما فيه من حس انتقل مباشرة للسامع والمشاهد وهذه أعلى درجات التأثير!
وتحمل لناقلها والمنقولة عنه أجمل معالم الاحترام والتقدير والثناء، إنه بهذه الخاصية الجاذبة يُبدع في مَلَكة نادرة تجمع بين احترام المحتوى وإبراز مهارات الناقل بتلقائية وتقدير المتلقي والظروف والبيئة! فتراها تصل إلى الناس بما يحاكي ويتناغم ويشبه حاله ومشاعره وهو ينقلها لهم!
في حين أنك قد تسمع الحَدَث نفسه من شخص آخر يختلف شعوره وتقديره لما يحفظه ويُسمعه الآخرين فيؤثر ذلك على ردة فعلهم تجاه ما يَرِدُ إليهم.
كذلك توثيق الصور الضوئية التي تتم بواسطة آلة التصوير-القُمرة- فتلحظ أن ذوق المصوّر وإحساسه يؤثر وبشكل كبير في اختيار زاوية التصوير وتوجيه الإضاءة والتركيز على مواطن القوة وإبراز أدق التفاصيل التي تؤثر تأثيرًا بالغًا في إخراج الصورة بالشكل الأنسب والأفضل، ناهيك عن الأجمل والأكمل؛ حتى أنك ترى صورتين صورهما مصوران مختلفان، وتم التقاطهما للشخص نفسه في مناسبة واحدة ووقت واحد؛ ولكن اختلاف ذوق ومشاعر وفكر المصوريَن انعكس على الصورة؛ حتى أن الناظر لها ربما يستشف من الصورة الأولى الحالة النفسية والانطباع المبدئي عن هذا الشخص ،في حين تجد أن الصورة الثانية عكست له شيئًا مختلفًا تمامًا عن الحقيقة!!
وهذا مُعتَبَر وملاحظ ليس فقط في المناسبات الاجتماعية والأفراح، والرحلات البرية؛ بل حتى في تصوير اللقاءات الرسمية والمؤتمرات والعلاقات والدولية!
كما أن تصوير الأماكن والأشياء قد يجعلك تحب المكان وترغب في زيارته والإقامة فيه، ذلك ما تفعله المكاتب السياحية في أنحاء العالم، وساكنو الفنادق وقاعات الاحتفالات، وتصوير الأسواق يحفزك لارتيادها والتبضع منها، وتكون سببًا في التسويق لها، ونشرها بين الناس واقتناء غيرك لها.
كذلك عندما يُدوّن أحدهم سيرة ذاتية أو يرصد خبرًا جديدًا أو يكتب عن مدينته أو وطنه أو مقر عمله أو بيئته يمكن من خلال قراءة ما كتبه أن يتكوّن لدى القارئ تصوّر عن مدى انتمائه له وحبه والفخر به!
أو الحالة النفسية التي غلبت على الكاتب أثناء كتابته!
أو يحرر فائدة علمية أو يؤلف في مجال من المجالات فإن ما تُسطره يده يؤثر على قبولك الفكرة؛ فضلًا عن استيعابك لها ونشرها وتأييدها! كذلك محبو تخصصاتهم عندما يحدثونك عنها وعن إنجازاتهم يجذبون الطامحين للسير في ركابها.
إن أهمية ذلك تجعلك ترى كثيرًا من الشركات اليوم تدفع مبالغ باهظة لأولئك الذين مهمتهم تصوير مواقعهم وإنجازاتهم وخدماتهم ومنتجاتهم وأفكارهم وعرضها على الناس؛ لأنهم يُحسنون اقتناص الزوايا المهمة وإبراز أدق التفاصيل - محل اهتمام الناس - مما يُسهم في زيادة المبيعات في المقتنيات ورفع سقف المتابعة في المشاهدات وتوسيع دائرة التعارف في العلاقات!
ولذلك يحظى صانعو المحتوى في عالم اليوم بتقدير كبير ورعاية فائقة ويحققون مستويات متقدمة في مؤشر الوظائف على مستوى العالم؛ لما لهم من أثر بالغ في نقل الإيحاء الإيجابي من خلال نسيج أفكارهم وانتقاء مفرداتهم وترابط عباراتهم وتكامل مواطن التأثير في صورهم. وصفاء احساسهم وتضمينه كتاباتهم ومَلَكَة تمرير القبول والإيجابية إلى المتلقي!
إن التوثيق بحالاته المختلفة الكتابة، الاستماع، الحديث، القراءة، والرؤية والمشاعر (لغة الجسم) صناعة فاخرة تعطيك أيها الموثق فرصة لنقل إحساسك ومشاعرك ورسائلك إلى الآخرين بكل إيجابية وتلقائية ومهنية، ويمنحك فرصة كبيرة في إيصال هذه الجماليات إلى الناس لتزرع في أفئدتهم وردًا بلا شوك وتنثر عطرًا لا يجف وترسم بسمة لا تنطفئ!