أ.د.عثمان بن صالح العامر
لكل وظيفة صغيرة كانت أو كبيرة حكومية، أو في القطاع الخاص متطلباتها المهارية والإدارية والفكرية والنفسية، بل وحتى الاجتماعية، ولكل منصب - خاصة إذا علت الدرجة وارتفعت الرتبة - تبعاته ومسؤولياته في مقابل ما يتحقق لشاغله من عوائد مادية، وإشباع للرغبات الذاتية المغروسة في تكوين كل منا، وقد تنعكس المناصب على شخصية شاغلها، وتؤثر على طبائعه وسلوكياته وأخلاقياته حين تعامله مع من حوله بوجه عام، سواء بالسلب أو الإيجاب، وربما طبعته بطابعها وهو لا يشعر. ومن باب التدليل على ما ورد أعلاه، أذكر أنني قبل سنوات ليست بالقليلة كنت في ضيافة أخ عزيز وصديق وفي، وكان يتجول بنا على مزارع واستراحات مدينة الخرج فوقف عند بوابة استراحة كبيرة، ولها سوار مرتفع جداً، وطرح علي سؤالا عارضا ومهما، قال لي: لو قيل لك لمن هذه الاستراحة، فمن تتوقع؟ سكت ولم أجب.. فقال لي : إنها لمسئول معروف في السجون!! وهذا هو الشاهد، لقد أثرت البيئة الوظيفة على هذا المسؤول علم ذلك أو لم يعلم، ومثل ذلك كثير وربما تكون حالتهم أظهر وأوضح. ولقد تحدث أهل الاختصاص عن هذا الأثر خاصة عندما يكون سلبياً بما اصطلح عليه بتشوهات المهنة، والمثل السائر عندهم ذلك المعلم الذي أمضى سنوات طويلة وهو يؤدب الصغار فهو إن لم يوطن نفسه ويسوسها جيداً فإنه مع مرور الزمن وطول المراس سوف ينظر لكل من يخالط من بني البشر من موقع الأستاذية، يتحدث كثيراً ويعيد الكلام مرات عديدة، ويروي القصة بتفاصيلها المملة كل مساء ولنفس القوم، يتحدث مع الجميع بنفس اللغة التي يوجه بها طلابه الصغار ويمارس حين اللقاءات، وفي المناسبات نفس السلوكيات التي تعود عليها كل صباح داخل أروقة مدرسته، وأعتقد أن أكثر ما تكون معالم هذه الصورة واضحة «تشوهات المهنة» لدى القادة العسكريين ذوي الرتب العالية وأصحاب المعالي والسعادة ومن هم على شاكلتهم الذين ألفوا الأمر والنهي والتوجيه المذيل بعاجل، وأفاد بما تم خاصة بعد التقاعد أو الاستغناء أو حين العجز والمرض- لا سمح الله-، ولك أن تتصور حالة صاحب منصب وجاه كلمته في العمل لا تقع على الأرض، حالته وواقعه حين يكون داخل كيانه الأسري على نفس المنوال وبنفس السلوك والأخلاقيات سواء في علاقته مع زوجته أو حين يخاطب أولاده الذكور والإناث!! جزماً ستتحول حياته إلى فعل وردة فعل، وقد تتبدل مشاعر المودة والألف بعلاقة الخوف والرجاء، وتتحول لغة الحوار المبني علالتفاهم والتجانس إلى لغة الأوامر والقرارات واجب التنفيذ وسم طال عمرك، حاضر، ما يكون خاطرك إلا طيب، أبشر.. لقد وضع لنا رسول- الله صلى الله عليه وسلم- من خلال سيرته الفعلية وسنته القولية قاعدة حياتية ذهبية فحواها بأن من الفطنة والحكمة الفصل التام بين الحياة العملية أياً كانت والحياة الأسرية، كما أن من السياسة الحياتية ترتيب الأولويات المعيشية وإنزال الناس منازلهم في التعامل إذ إن هناك فرقا كبيرا بين ممازحة الولد ومعامل المراجع أو الموظف أو... والمناصب لها واجباته التي تنتهي عند باب المكتب لتبدأ حياة اجتماعية جديدة قد تختلف جذرياً عن الحياة الوظيفية ذات المسؤوليات متعددة المهام، ولكن وبحق من أخطائنا الاجتماعية القاتلة الخلط وعدم التفريق بين الوظيفي والمجتمعي، فالمجتمع يريد المسؤول داخل ميدان عمله كما هو في الخارج، وإذا لم يكن كذلك - خاصة عندما يوكل إليه القيام بمهمة وظيفية توجب عليه الحزم تحقيقا للعدل والإنصاف- تداول الناس عبارة دارجة..»فلان ما هو خبرك تغير..غيرته الوظيفة، بدأ يتكبر علينا» وإذا تقدم صاحب أو قريب بطلب ولم يلب له طلبه انصياعاً منه للنظام، كرر في المجالس «فلان لا يهمك..بيوم من الأيام تقدمت له بطلب وما وجبني، قلبه أسود ولو أظهر لك المحبة .. الله وأعلم أنه ما يرغبنا حنا يا أقاربه...» علاوة على أن العكس قد يكون، فهذا المسؤول أو ذاك ربما يكون من أولئك الذين يخلطون أوراق المسؤوليات الوظيفية مع العلاقات الشخصية، وهذه هي وللأسف الشديد السمة الغالبة عندنا خلاف الغرب الذي يفصل فصلا تاما بين الشخصي والوظيفي، ولا تلازمه تشوهات المهنة كما هو الحال في عالمنا العربي، إذ إنه يحقق في داخل ذاته انسجاماً خاصاً ويربيها على الانصياع للأوامر التي تفرضها المسؤولية الاجتماعية، ومتى ترك الكرسي عاد وبكل ثقة لحياته الخاصة ومشاريعه الذاتية والتطوعية خدمة للمجتمع، والله ثم والله أننا نحن الأحق بذلك، فهذا ديدن رسولنا محمد بن عبد الله- صلى الله عليه وسلم- ومن بعده صحابته الأجلاء رضي الله عنهم أجمعين، وإلى لقاء، والسلام.