مفردة الهويّة يتم تداولها واستخدامها بشكلٍ دائم، وقد يكون استخدامها لفظياً تقليدياً بعيداً عن عمق المعنى أو الأبعاد الحقيقية لماهية الهوية، وهي ليست مفردة طارئة أو ناشئة، ولكنها تشكّل حياة الفرد والمجتمع، بل حتى المكان، وظهرت الهوية مع نشأة الإنسان، وهذا قد يكون جانبا يختص بعلم النفس وعلم الاجتماع على حدٍّ سواء، إلاّ أن ظهور مفردة الهوية كمفردة مستقلة وفق ما تشير إليه بعض المصادر كان لدى الفيلسوف الألماني دلتاي في القرن العشرين.
للهوية ارتباط مباشر بتشكيل الشخص داخل بيئته على اختلاف حدودها وأبعادها الدينية والاجتماعية والثقافية، وتحدِّدْ تصرفاته وصفاته، وسمات أخرى تصنع الفرق بين المجتمعات، لذلك، تضم الهوية عدداً من السمات الفردية التي يكون لها أثر ودور في خلق الشخصية وبنائها، باعتمادها على القيم التي تنتمي إليها هوية المجتمع الذي يعيش فيه الفرد والتي تُؤطِّر بناء هذه الهوية لتكون في الآخر جزءا من المكوّن العام لهوية المجتمع - كبر أو صغر- ومنه يمكن أن تُعرف المجتمعات بهوياتها المختلفة.
وتلعب الهويّة دوراً كبيراً في بناء المجتمع والفرد كشعور وانتماء وتحقيق أهداف، وعلى النقيض من ذلك عندما تكون بعض مكوّنات هذه الهوية تعزز لبعض التصرفات الفرديّة التي تتعارض مع بعض القيم التي لم يعد لها أثر في مجتمع اليوم، ولكنّها امتدادٌ لظروف زمنية سابقة، لا يزال البعض يرى بأنها جزء من هوية المجتمع، ويحافظ عليها ويقدمها إلى من بعده، تلك التي لا تتوافق مع المبادئ الدينية أو السياق العام للمجتمع بشكل عام.
وعلى الجانب الآخر فيما يخص التراث، فالتراث يمثل تاريخ الأمم، وهو ما ورثته الشعوب عن أسلافها، سواء كان هذا التراث ماديا أم غير مادي، وإن بدا الاختلاف بين التراث المادي الذي ينقل إلى الحاضر ما خلّفته أمم وحضارات سابقة، بينما التراث غير المادي مرتبط بالمجتمع كتراث حي متوارث وواقع معاش.
وإذا كان هذا هو المفهوم الرئيس للتراث الذي يشكّل حضارات الأمم، ويميّز عاداتها عن بعضها، ويجعل من كل أمة أو منطقة كيانا مختلفا، وإن كان التشابه في بعض منها جليا، وعلاوة على ذلك، فهو مساحة للتواصل بين الشعوب، وإرث يمكن التعاطي معه كثقافة تسمح للآخر بالتعرف على الأرض ومن بها، تاريخها وبيئتها، والتي تشكّل مجتمعة ثقافة أمة وقيمة شعب، فإن الهوية تدخل ضمن هذا التشكيل الثقافي وتندرج ضمن التراث غير المادي لارتباطها بالمجالات التي تحدد هوية الإنسان من خلال عاداته وتقاليده، وطقوسه، وفن تعامله مع المجتمع في محيطه وخارجه، وهنا لا يمكن فصل الهوية عن التراث أو أن تكون ذات دلائل تسير بالتوازن مع التراث الثقافي غير المادي، لذا، ومن خلال هذا الاندماج المعنوي والحسي للتراث والهوية رغم الفهم الأولي بخلاف ذلك، فعلينا كمجتمع أن نجعل هويتنا الثقافية سامية تعزز من الإرث الحي، وتنبذ ما يؤدي إلى تشويش الموروث من خلال بعض الممارسات التي لا تعكس حقيقة الحياة الاجتماعية والثقافية الوطنية في العصر الحالي.
وكون التراث والهوية يشكلان ذات الاتجاه لعكس حياة المجتمع، قد يلزمنا أن نعيد فهم الهوية بصورتها الحقيقية التي تقدم تراثنا كواجهة وطنية، وإظهار المعنى الحقيقي لهما كعناصر تشكّلنا، وأن اللفظ الذي يكتسي التراث بأنه رمزية مباشرة إلى (القديم) مفهوم يشوبه شيء من الضباب؛ لأن التراث هو الهوية الثقافية للمجتمع الذي منه يتكوّن الوطن، وأن الفهم غير الواضح للتراث، يجعل الفكر الأولي لفهم التراث لا يتوافق مع البعد الثقافي والمعنى الحقيقي له، ويجعل الصورة الذهنية تتسم بشيء من سلبية الرؤية.
ومن أهم جوانب ربط التراث والهوية كعناصر مشتركة في وحدة ثقافية وطنية، بل ومن أكبرها أثراً في التعريف بهذه العناصر، تسميات الأعوام، التي أتت لتعيد الفهم الحقيقي لماهية التراث والهوية في آنٍ واحد، وعززّت هذه التسميات من توسيع دائرة الفهم، وإثراء ذلك بالملتقيات العلمية المباشرة، كذلك الأبحاث والدراسات على مختلف مستوياتها.
بدأت هذه الفكرة الرائدة بعام الخط العربي، الذي أعلن عن تسمية عام2020م بعام الخط العربي، الذي يعتبر واحداً من العناصر المسجلة على القائمة التمثيلية للتراث غير المادي لدى اليونسكو بالشراكة مع بعض الدول، ولكن المدلول من هذه التسمية ليس احتفاءً به كتراث عالمي فحسب، بل هناك ارتباط بنشأة الخط العربي وتطوره، وارتباط ذلك بالمملكة العربية السعودية، والحديث عن تفاصيل ذلك يتطلب أبحاثاً لتوضيحه، ويوجد مختصون لهم السبق في هذا الأمر.
كما جاءت تسمية عام 2021م بعام القهوة السعودية، وعكست هذه التسمية العديد من الجوانب في التعريف بحقيقة القهوة وما يرتبط بها من تقاليد تميّز المجمع السعودي عن غيره رغم انتشار القهوة حول العالم، إلّا أن مسمّى القهوة السعودية فتح باباً للغوص والتعرف على أنواعها ومنازلها، وعادات الإعداد والتقديم، وما بها من قيم مجتمعية. وجاء عام 2023م يحمل اسم عام الشعر العربي، هذا العنصر الثقافي الذي يرتبط بالحياة اليومية بشكلٍ كامل في جميع شؤونها، وواجهة ثقافية حاضرة في كل مشهد، وأثمرت هذه التسمية عن ولادة أسماء شعرية صاعدة واعدة، مع تراجع الحاضنات الإعلامية الخاصة بالشعر في ظل الثورة التقنية. ليقتفي عام الشعر عنصرا له ارتباط وثيق بكل ما سبق، وهو عام 2024م أو بالأصح عام الإبل، وهنا تظهر صبغة التسمية ودلالتها بعد أن استوعب الجميع أهداف التسمية للأعوام، حيث لم يكن قطاع الإبل حاضراً في المشهد كما هو الآن في عامه، الذي انبثق من رؤية الوطن 2030، فأصبح حضور الإبل بأنواعها على مختلف المنصّات أمراً طبيعياً، ولم يعد الاستغراب حاضراً كما كان سابقاً، الندوات وورش العمل، والنشر الإعلامي التعريفي المستمر، ومن ثم يأتي الإعلان لعام 2025م وتسميته بعام الحرف اليدوية، وهذا العنصر الذي كان واحداً من العناصر المرتبطة بالحياة اليومية والثقافة لكل مجتمع قبل أن تظهر بعض البدائل، وفي عامه ان شاء الله سيكون الحديث عنه. بعد هذا الاستعراض السريع لتسمية الأعوام، وربطها بعناصر ثابتة في هوية المجتمع تتضح الصورة جليّاً بالارتباط الدائم، والتوافق في الأهداف والمعاني رغم التباعد اللفظي فيما بين (التراث والهوية)، وأن هذه الكلمات ليست للاستعراض اللغوي أن التعبير عن مكنون المجتمعات وتركيباتها، بل مكوّنات ثابتة وحيّة للتقديم الهوية الثقافية الوطنية لكل شبرٍ من أرض الوطن، مما يثبت وحدة الذات الوطنية من خلال حقائق تعكس المجتمع السعودي بوحدته وخصوصيته.
** **
- مرضي بن سعد الخمعلي