د.عبدالله بن موسى الطاير
لازلت أتذكر التحذيرات من الغزو الفضائي، كان أساتذتنا في الإعلام ينذرون من شر قد اقترب، وكانت أدمغتنا خلواً من تصور ذلك الخطر، كنا نظن أنها مبالغات، وأن جرعة تدفق المعلومات من الشمال إلى الجنوب ستزداد كماً وكيفاً لكننا أبداً لم نتخيل تحميل القنوات التلفزيونية والإذاعية فضائياً، ناهيك عن شبكات التواصل الاجتماعي.
حديقة هايد بارك في لندن كانت منصة من لا منصة له، يقف الخطيب ويشتم في الدول وقادتها، وحوله عشرات من الأشخاص لا يبلغون المئات في معظم الظروف، فإذا جن عليهم الليل انقلبوا لأقرب البارات لينعم اليسار واليمين بتبادل الجعة وكأن شيئاً لم يكن. ومنذ أول غزوة دشنتها قناة CNN والغارات تتوالى وتتعاظم، والأدوات تتطور حتى تم تسييل الحدود السياسية والجغرافية لتحل محلها المواطنة الكونية التي بلغت ذروتها بفضل تسارع الاتصالات وتوسع شبكات التواصل الاجتماعي.
خرج حارس البوابة من النافذة ولم يعد، وانكفأت وزارات الإعلام، وأصبح الإعلام المحلي والناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي بين متحفز لصد المعلومات المتدفقة، أو التصدي للمعلومات المغلوطة، وبين متصدر للهجمات على اعتبار أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، وهم جميعاً كمن يحجب الشمس بغربال. إننا ننخرط في لعبة عالمية بتقنيات عتيقة، فلا التحفز يفيد في صد الهجمات، ولا المبادرة بالهجوم توقف زحف الاستقصاد، ذلك أنك أمام مواطنون كونيون يملك كل واحد منهم ميكرفون وصحيفة ومحطة تلفزيون وإذاعة متنقلة تأخذ أوامرها من أطراف أصابعه.
هل يتعين على البلدان أن تقلق جراء حملات الاستهداف بمعلومات مضللة، أو بتضخيمٍ ومبالغةٍ لأحداث عادية؟ بالتأكيد عليها أن تستشعر خطر الحملات السلبية على وسائل التواصل الاجتماعي؛ تلك الحملات تنشر معلومات مضللة وروايات مؤذية عن بلد ما، قد تؤدي إلى إثارة الاضطرابات الاجتماعية، وتعميق الانقسامات القائمة داخل بلد ما، بل وحتى إلى العنف أو عدم الاستقرار السياسي - بحسب قوة تماسك جبهة البلد الداخلية، مما يلحق الضرر بسمعته على الساحة العالمية، ويؤثر على السياحة والاستثمار الأجنبي والعلاقات الدبلوماسية.
حملات التضليل المنسقة والمفخخة بالأكاذيب التي تستهدف النظم السياسية والمقدسات وحتى العلوم والفنون تؤدي مع الوقت إلى تآكل ثقة الجمهور في المؤسسات الحكومية ووسائل الإعلام، ويمكن للجهات الفاعلة الأجنبية التلاعب بالرأي العام والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وزرع الفتن داخلها وبين مكوناتها.
الخطأ الفادح الذي ترتكبه الأجهزة المعنية بسمعة الدول هي التقليل من خطر الحملات السلبية التي يشنها أفراد أو تجمعات، ففي هكذا ظروف لا تدري من يتصرف بعفوية، أو بخلفيات شخصية أو أنه ضمن شبكة أوسع وأشمل وأقوى تنهج أساليب الذئاب المنفردة التي شاعت عن المنظمات الإرهابية المسلحة.
أمريكا بعظمتها العسكرية والاقتصادية وعرابة الغزو الثقافي تواجه على نحو يومي هجمات ارتدادية من خصومها، وتشتد وتيرتها في فترات الانتخابات الرئاسية للتأثير في قناعات الناخبين والتلاعب بها، وكانت انتخابات 2016، و2020 و2024 أمثلة واضحة للاستهداف المضلل. كما أن الدول الهشة التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي أو الاقتصادي أو مستها الحروب الأهلية بضرر، وبخاصة في منطقتنا، تشهد تصعيدًا سريعًا للعنف والاضطرابات التي تغذيها المحتويات المثيرة للجدل على وسائل التواصل الاجتماعي، وتتفاقم معاناتها بسبب تدفق المعلومات الموجهة والمضللة التي تزيد حدة الانقسامات، وتعمق الشروخ بين مكونات البلد الواحد.
وإذا كان التحذير من التساهل أو التقليل من فاعلية وخطر المعلومات السلبية المعادية مشروعاً، فإن اتخاذ الدول تشريعات، وابتكار تقنيات، وتشييد خطوط دفاع قوية يعد من الواجبات التي لا تقل أهمية عن حماية السيادة والحدود بالجيوش المسلحة. وهو ما يعني مضاعفة ميزانيات الأجهزة المعنية بالتصدي للمعلومات المضللة، ومراجعة القوانين واللوائح الخاصة بمكافحة انتشار المحتوى الضار مع حماية حرية التعبير المسؤولة، وتثقيف المواطنين حول كيفية تقييم المحتوى الذي يتعرضون له عبر الإنترنت بشكل ناقد وتحليلي.
وفي ظني أن العمل مع منصات شبكات التواصل الاجتماعي لتحديد وإزالة حملات التضليل وشبكات الروبوتات أكثر جدوى من مقاطعتها أو كسب عداوة القائمين عليها، وهو بنفس أهمية العمل على وضع استراتيجيات اتصال استباقية لمكافحة المعلومات المضللة وتعزيز المعلومات الصحيحة.