د. محمد عبدالله الخازم
«الحياة نهر جار، والإنسان يشكل قطرات هذا النهر، والقطرات تشكل النهر وجريان النهر هو الحياة... الحاضر هو نقطة فقط، والبقية ماض ومستقبل، وأهميتنا هي في أننا النقطة الواصلة بين الحاضر والمستقبل، كما كنا النقطة الواصلة بين الماضي والحاضر».
هكذا يبدأ د. عثمان محمود صيني مقدمة كتابه الصادر حديثاً بعنوان «رِدية التراث الحي» عن دار أدب، في 362 صفحة. الكتاب عبارة عن مقالات أو محاضرات (تتجاوز 50 مقالاً) نشرها الكاتب عبر تاريخه الممتد في فضاء الكتابة والأكاديميا والصحافة، يجمع بينها خيط التراث الحي، حيث غاص الكاتب في شرح الموروثات الشفاهية والشعبية عبر لغة شفافة، واصفاً ومقارباً بينها وبين الأصول اللغوية والثقافية.
«هناك تراث ثقافي غير مادي وتراث صلب أو مادي، فالتراث غير المادي يتغلغل في جميع أنواع التراث الثقافي، أو هو الجامع لكل أنواعها والنسغ الذي يسري في شرايينها، فالأدب شعراً وسرداً بجميع أنواعه وموضوعاته وأشكاله وطرائق تعبيره إذا مورس لأكثر من جيلين هو تراث غير مادي، وصناعة الأزياء وطريقة لبسها وتجهيز ألوانها وحياكتها وطقوسها ودلالاتها، والأفلام.. والعمارة .. والتصوير والنحت.. والرقصات.. والطهي، وغيرها، كلها تدخل في باب التراث غير مادي».
وكما يصف الدكتور الصيني استخدامه مصطلح «الحي»؛ كل ذلك يعني التراث الحي، لأن هذا التراث مازال حياً فينا وممارسا من بعضنا ويحظى باعتراف ولا ننظر له على أنه ترف أو فلكلور أو ترفيه، ولكنه جزء من تاريخ الإنسان على هذه الأرض وهويته المستمرة منذ آلاف السنين.
تلك أهم محاور «رِدِية التراث الحي» ومن خلالها يأتي مشروع د. الصيني في المطالبة بفهمه أولاً، بوصفه جزءا من الهوية وضرورة وليس ترفاً. يحتاج الاعتراف به وعدم حفظه في المتاحف والنظر له بدونية واحترام تعدده وتنوعه بجميع أشكاله بالقدر نفسه من القبول دون طبقية أو إعلاء أو دونية أو شوفوينية.
لست في وارد استعراض مكونات الكتاب وهي ثرية جداً، لكونها مقالات متنوعة في عناوينها وتواريخ نشرها، ولست في وارد نقدها، لعدم التخصص ولتنوعها الذي يحتاج مساحة أوسع. لكن المؤكد أنها تشير إلى تميز جلي في استيعاب الفروقات الأنثوبولوجية والثقافية واللغوية والفلسفية في التراث الحي، حيث يستحضر الدكتور الصيني علاقة الماضي للفنون الشفاهية بالحاضر وكيف تم تطورها، مع ما يتطلبه ذلك من قدرات معرفية ونقدية في فهم المجتمعات ونموها على كافة المستويات ذات العلاقة بالتراث، بصفة عامة والحي منه بصفة خاصة.
وكدليل على عمق المعرفة لدى الدكتور الصيني وقدراته في تحليل وسبر أغوار طيف واسع من تفاصيل التراث الحي في مختلف المناطق، أجده يلامس (شغاف) القلب حين يصف الطرق (الجبلي) وكأنه أحد معاصري الشاعر الكبير (بن ثامرة) -رحمه الله- ويستعرض تراث منطقتي الحي بشكل أخاذ، رغم أنه ليس من أبنائها.
بقي مهماً الإشارة إلى أن هذا الجهد والتميز ليس مستغربا من قبل الدكتور عثمان الصيني، فهو رائد وطني وعلم معروف في مجال الثقافة والإعلام السعودي؛ كأستاذ للغة والأدب وصاحب السيرة الثقافية والإعلامية والقيادية التي لا يذكر تاريخ الصحافة السعودية دون الإشارة إليه، حيث عمل نائب رئيس ورئيس تحرير صحيفة (الوطن) ومؤسس رئيس تحرير صحيفة (مكة) ورئيس تحرير (المجلة العربية) وغير ذلك من المهام التي أثبت فيها التميز والتفرد، ولا زال هطله مستمراً على مختلف الصعد الثقافية والإعلامية وغيرها.
أرجو للدكتور الصيني دوام الصحة وتواصل العطاء، وننتظر منه مؤلفات أخرى، سواء سيرية تتعلق بمسيرته الثرية في مختلف المجالات، أوفي مجال التراث الحي الذي أبدع في تناوله على مدى سنوات.