يصفها الدبلوماسي السابق والمثقف الدائم الدكتور زياد الدريس قبل صدورها بأنها (ليست سيرة شخصٍ ولا سيرة جيل، بل (سيرة دولة) عاصرها صاحبها منذ عهد الملك الراحل عبد العزيز، وحتى ما وصلت إليه اليوم على يد الملك سلمان)، ويضيف سؤالاً للتأكيد على قيمتها وأهميتها: (فماذا نتوقع من رجلٍ عايش وتعامل مع سبعة ملوك، غير أن يكون زاخر التجربة، ثريّ الذكريات والمواقف في 100 عام من الانفتاح على مجموعة متنوعة من الثقافات واللغات والمجتمعات والأيديولوجيات والسياسات، التي شكّلت بمصهورها شخصية (جميل الحجيلان).
يقول عنها الأديب والإعلامي المثقف الدكتور إبراهيم التركي: هي (سيرةُ وطنٍ وأمةٍ في مرحلة من أهم مراحل التأريخ المحلي والعربي منذ خمسينيات القرن الماضي حتى مطلع الألفية الثالثة، في قرنٍ مورقٍ بالغربة والتحدي، والعمل والأمل، والعطاء والإباء، والإدارة والإعلام، والدبلوماسية والإنسانية).
بينما يعلن الأستاذ محمد السيف الأديب الخبير في تقييم وتوثيق السير الذاتية لعدد من الشخصيات السعودية الشهيرة؛ (أنّ السيرة التي كتبها الشيخ جميل الحجيلان هي أوفى وأشمل سيرة ذاتية قرأها لمسؤول سعودي رفيع، وهي أرقى وأمتع سيرة ذاتية قرأها لسياسي ورجل دولة عربي، من حيث لغتها العربية الباذخة التي اتسمت بدقة التصوير والوصف، وبأسلوبٍ أدبي جميل، لم تقتصر في تفاصيلها على مسار حياته ومهماته الوطنية، بل تعدت ذلك إلى تقييد وتوثيق أحداثٍ محلية وإقليمية، عاصرها كاتبها وأشبع تفاصيلها، زماناً ومكاناً).
أمّا الصحفي السعودي الشهير بتحقيقاته ومقالاته الاستقصائية بندر بن عبدالرحمن بن معمر فيتحدث عنها وهو يحكي قصة مراحل طباعتها وصدورها؛ بالكنز التاريخي الثمين لرجل دولة (عمل في دهاليز السياسة وأروقة الدواوين، وخبر ممرات الدبلوماسية ومساراتها ومحطات الإعلام ووسائله؛ معاصراً جميع ملوك المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك عبد العزيز حتى اليوم، ترجم لهم، وحمل رسائلهم، وكلفوه بالمهمات، حاضراً في معيتهم القمم والاجتماعات، فسمع ورأى وشهد وشاهد، ووثق في مذكراته حوادث ومواقف وتفاصيل تنشر لأول مرة موثِقةً مراحل من تاريخ السعودية السياسي والإداري والاجتماعي، ورصداً لتحولات مرت بها المنطقة ودولها خلال قرن من الزمان).
أما كاتب هذه الأسطر الشغوف بقراءة السير الذاتية والكتابة عنها، فقد شعر أنه حصل على (كنزٍ) كان يبحث عنه - طوال تلك السنوات التي حملت أخباراً ومقالات تبشّر بقرب صدورها - عندما اشتراها من معرض الرياض الدولي للكتاب، قبل نحو شهرين، ثم عكف على قراءتها مدة يومين ونصف من المتعة في مجالسة التاريخ، لينتهي بعدها من التحليق في فتنة الدهشة بالحدث والقص والسرد وتباين المشاعر تجاه الأحداث التي ترويها هذه الشخصية العربية السعودية، ومسيرة طويلة من الجد والمجد، بدأت في دير الزور، وفي مدرسة (ملكته) الأولى التي تعلم صلابة الوقوف في وجه مصاعب الحياة في ديوانها؛ والدته وضحى الحجيلان، والتي بلا شك ساهمت في صنع قائد عظيم.
لكن هذه العظمة لم تحدث قبل أن يمخر عباب بحر المصاعب والتحديات من محطة إلى أخرى في طفولته ونشأته وفترة شبابه، يبتسم له القدر حيناً ويعبس في أخرى، ليصل أخيراً - وبعد سنوات - إلى شاطئٍ مختلف تماماً أمام (جزيرة الكنز) التي للتو بدأت يومذاك كتابة أعظم ملحمة للتوحيد السياسي في هذا العصر، والتنمية والتطور والازدهار، عاش فيها مع الملوك، وصحب التاريخ، يصحو وينام معه في التوقيت نفسه، مستمداً من هذه الحياة الملكية في عهد ملك إثر ملك: الثقة والحكمة وسعة الأفق واستشراف المستقبل، متسلحاً بالصبر والحلم والأمل، والعزم والحزم، فهما أساس الظفر، كما تعلم من درسه الأول في بلاط ديوان الملك العظيم الموحد، وهو يترجم لضيفه ويسجل تجربته الأولى لمجالسة الملوك.
ولاشك أن القارئ المحب لقراءة السير الذاتية، أو الطالب الباحث في شؤون السياسة والإعلام والدبلوماسية سيظفر بقراءة تجربة لا تتكرر والاستفادة من دروسها، لرجل دولة من الصعب ظهوره مجدداً مهما حاول التاريخ، إذ جُمع له بين حظ العمل مع سبعة ملوك، حظوظ العمر المديد والعلم والثقافة والممارسة العملية والإعلامية والدبلوماسية وحتى الإنسانية، استطاع أن يسجل (باختصار) سيرة 100 عام في حوالي 700 صفحة، لم ألاحظ فيها رغم ممارسة هواية تحليل الأحداث ومتابعة توثيق التواريخ والتدقيق في السرد أي خطأ أو اهتزاز في الصورة أثناء عرض الأحداث، بل اتصفت بسلاسة في الحكاية وجمال في العبارة وحضور الصورة الفوتوغرافية ومناسبة الاستشهاد والتحليل التاريخي لكثير من الظواهر والأحداث التي مر بها العالم العربي في العقود العشرة الماضية، زيادةً على اليقين الحاصل بعد قراءتها من علو كعب الملكية في قيادة التنمية، وترفّع ملوكنا عن الزلات ونبل أخلاقهم وتمسكهم بمبادئهم، وثباتهم وحكمتهم وقدرتهم على القيادة مهما كان اشتداد العواصف حولهم.
وقد ألتمسُ عذراً - إن صح أني وجدت - لاختلاف الرقمين عند ذكر عدد السنين التي تلت غزو حرب تحرير الكويت أثناء الحديث عنه في صفحتين مختلفتين منتصف الجزء الثاني من السيرة، فقد مرت سنوات بعد كتابة الذكريات وقبل الطباعة والنشر.
ومع ذلك ستُنهي - كما أظن وكما حصل لي - قراءة هذه (المسيرة) وأنت تحس أنك فهمت التاريخ، وقد أشبعت فضولك ولم تعد - ربما لفترة طويلة - في حاجة لقراءة أي سيرة أخرى، تقارن معها غزارة سيرة الحجيلان ونخبويتها! وقد تحذّر الآخرين في تحفيز سلبي من الملل الذي سيصيبهم عند قراءة أي سيرة بعدها، إذ حملتُ من (المعرض) معها كتابين لشخصيتين عامتين تحظيان بشيء من الشهرة، رويا سيرتيهما الذاتية، لكني حتى ساعة كتابة هذا المقال وكلما مررت بهما على الطاولة أجلت القراءة!
بل لا أبالغ إن قلت إن كل السير الذاتية التي قرأتها من قبل أصبحت مثل النجوم في السماء تلمع حول القمر المنير، لا يمكنك التغافل عن نوره وسحر حضوره !
وقد لا تشدك الأحداث في أول قصة هذا العقيلي السعودي الذي ولد في دير الزور السورية (يوم الثلجة الكبيرة) أيام الاحتلال الفرنسي، وستعتبر يوم تخرج هذا الطفل الوديع ضئيل الجسم من مدرسة (خوجة كوكب) نقطةً عابرة، تلحق بها نقطةً أخرى مع ( مدرسة إبراهيم هنانو) و(مدرسة عبدالرحمن الغافقي) الابتدائية، وكلها في (دير الزور) المشهورة حتى اليوم بنسيجها الاجتماعي العشائري، لكنك شيئاً فشيئاً سترى أن الحدث يثير اندهاشك، وأنت تتابع إصرار (الحجيلان) على المضي قدماً، رغم طفولته القاسية وفقده الدائم لأبيه والسنوات السبع العجاف التي حُرم هو وأمه من رؤيته فيها، وما لاقاه طوال تلك المدة وقبلها وبعدها من تعب وهم وكدر مع الأسرة وفي الدراسة والغربة، وحتى وهو يفوز بالشهادة الجامعية بعدها بسنوات متخرجاً من أعرق الكليات العربية في مصر العظيمة، وترى أن الحظ قد ابتسم له أخيراً؛ ستجد بطل القصة يدخل في صدمات أسرية وحضارية متتابعة تاركاً خلفه - في غرة يناير 1951م - (القاهرة)؛ مدينة الحضارة والحلاوة وبهجة الحياة - كما يصفها - منتقلاً للوظيفة الأولى في حياته وسط صحراء قاحلة، لم يكن يعلم أنه سيلتقي فيها بعد ثلاثة عشر شهراً أعظم ملوك العرب على مر التاريخ الحديث، يجلس بين يديه وفي ديوانه ليمتدح أداءه ويدعو له!
ولن تتوقف الدهشات ولا الغرائب ولا المواقف المضحكة والمبكية، و(السيرة) تتنقل بك من ملك لآخر، ومن مسؤولية لأخرى، وتبتسم للمشهد وأنت تراقب هذا الدبلوماسي الشاب الذي تجده في معية (شاه إيران) ضمن فريق العمل في سفارة المملكة هناك، لتكتشف أنه وبعد عدة صفحات وفي العام الذي يليه يهش الناموس من على مكتبه في بقعة منسية من هذا الكوكب في كراتشي في باكستان قبل سبعين عاماً، وفعلُ الهش هذا عند راوي المسيرة واقع يحكيه، لا مبالغة يرويها للتعبير عن الفراغ وإن حصل بعد ذلك!
ومن كاتبٍ شاب لا يعرفه أحد، يقرأ قصصه القصيرة في الإذاعة الوليدة؛ إلى مديرٍ عامٍ للإذاعة نفسها في مديرية الإذاعة والصحافة والنشر بعد 10 أعوام. (وهي تشبه حينها وزارة الإعلام قبل أن تتحول إلى وزارة). ليتحقق بعد 3 أشهر من لقائه السفير محمد الشبيلي وهو يواسيه فيما ناله من الانكسار عندما استقبله في طريق عودته بالباخرة مع أسرته من كراتشي إلى مصر، يغالب شعوره بالأسى لتجاوز الوازرة أحقيته في الترقية، مخاطباً الحجيلان بلغة المحب الخبير: (سترى الخير إن شاء الله أمامك).
ثم تتوالى المحطات سفيراً في الكويت ووزيراً لوزارتين (مُتعبتين) هما الإعلام والصحة، فسفيراً في ألمانيا، ثم لعشرين عاماً بعدها سفيراً شهيراً في فرنسا، معاصراً أصعب الظروف بالتوقيت العربي للأزمات! ليختم مسيرة الخمسين عاماً العملية أميناً لمجلس التعاون الخليجي لفترتين، حاصلاً على التكريم والتقدير من جميع قادة الدول الخليجية، بل حتى ممن عارض تعيينه في البداية.
وربما أثنى الشيخ جميل الحجيلان على دور (المرأة) في عدة مواقع من هذه السيرة وذكرها في مجرى الحديث وأظهر احترامه وتقديره لمكانتها ورسالتها ، لكني شعرت أن (المرأة) في حياة الحجيلان كانت في كل محطاته وفي كل فصل من فصول سيرته ؛ غيمةَ دعم هاطلة، وقوة يستند إليها ويعود لها ويستمد منها بعد الله عونه، ويفتح لها قلبه، ويترجم عندها حتى لو تلميحاً لحظات الضعف والانكسار التي يمر بها، وهو بعد ذلك الذي فتح لها الإعلام والفضاء والحرية متفهماً توجيه القيادة، ومؤمناً بدورها ومشاركتها، مواصلاً خوض حروبه الشرسة التي بدأها مع صبية الحي في دير الزور، ثم ها هو يمرّ بها في وزارة الإعلام مع مئات العرائض والشكاوى ضده، تُقدم للملك أو ترسل له شخصياً، مندفعاً بحذر مع رغبته في التغيير والتجديد، مرةً ضد الظلام، وأخرى مع رياح التنوير واستشراف المستقبل.
وإن كانت همم الحالمين كباراً فالأحلام ستكون كبيرةً، وستكون بالتأكيد الخصومات على مستوى أعلى وأشد، لكن الله كان معه ثم ثقة كبيرة من ملوك عظماء يقدرون ولا ينسون الفضل للمخلصين الأوفياء!
وسيكفيك أن تلاحظ صورة الغلاف وتتأمل الرضا والإعجاب في قسمات (فيصل) - وأي ملك هو فيصل في تلك الأيام التي شغل فيها الدنيا والناس والسياسة؟ -لتعرف كم من النجاح والسعادة حازها هذا السيد المسؤول ورجل الدولة الوطني المثقف الذي يقف بجانبه، تنبض من ابتسامته في الصورة قصةٌ قصيرة عن الفخر ومتعة الإنجاز والقدرة على ترجمة الثقة! ومن اختارها صورةً للغلاف أحسن واختصر جزءاً كبيراً من السيرة لم يروه صاحبها تجنباً لمدح نفسه!
أخيراً، وكما يقول المعلقون على بعض الأفلام السينمائية الجميلة، التي شاهدوها وأدهشتهم، ثم يريدون تشجيع غيرهم على مشاهدتها والانبهار بها مثلهم: هنيئاً لمن لم يقرأ لحد الآن سيرة الشيخ جميل الحجيلان مع الحياة، ومع سبعة ملوك حاز ثقتهم ومحبتهم وتقديرهم!
** **
- إبراهيم عواض الشمراني