سام الغُباري
في عالمٍ تُغتال فيه الرموز، يقف الرمان والزيتون شاهديْن على قصة أمة ممزقة بين زمنين، بين جغرافيا تتغير وهويات تُحاصر. الرمان في اليمن ليس مجرد شجرة؛ هو ذاكرة الأرض، هو ظلّ الغارس حين يتعب، وحكاية الفلاح حين يبوح، هو ثمرة تُعاند الزمن وتقاوم الفناء. الزيتون في فلسطين يحمل الهم ذاته، ظلّ آخر وشجرة أخرى، وحكاية لا تختلف كثيرًا عن مأساة الرمان، كلاهما يقف في وجه العنصرية التي لا تعرف غير الهدم والنهب.
نتنياهو في القدس وهناك مثله في اليمن ينهلان من مدرسة واحدة، مدرسة تكره كل ما ينبت من خير على الأرض، مدرسة تستهدف المزارعين لأنهم غرسوا في الأرض رمز المقاومة. كلاهما يكرهان الرمان والزيتون لأنهما شاهدان على جرائمهما، وكلاهما يخشى أن تروي هذه الثمار قصة الصمود، أن تغني للحرية، أن تشهد أن الأرض لا تخون أهلها.
الرمان، تلك السيدة المحتشمة على السفوح كما وصفها محمود درويش، لا تبكي ولا تضحك، تقف بثباتها كأنها تقول للعابرين: «أنا هنا». في صعدة، حيث ينمو أجود أنواع الرمان، يزهر الخير رغم العتمة. الفلاحون هناك يروون عن شجرة تعطي دون أن تسأل، عن موسم يبشر بالخير، عن ثمار تختزن في داخلها تاريخًا من العطاء، لكن ذلك التاريخ يُستهدف اليوم ببلاغات عنصرية تطالب بعدم بيع هذا الخير لأبناء الوطن الواحد.
في أرقام الزراعة اليمنية تختبئ قصص أكبر مما تحمله الجداول. 50 ألف طن من الرمان في عام 2022، يخرج نصفها تقريبًا من صعدة وحدها، من 1618 هكتارًا زرعها مزارعون جعلوا الأرض حليفة لهم رغم كل المعوقات. في بساتين الحدأ، حيث ولدت الذكريات، كنت أرى الرمان وهو يكبر أمام عينيّ، شجرتان في باحة منزلنا، تنمو أغصانهما بعناد كأنهما تقولان: «سنروي حكايتك.» كنت أغفو تحت ظلهما، وأحلم باليوم الذي تتحول فيه الزهور الحمراء إلى ثمار، مثقلة بالعصير، تحمل في داخلها وعدًا بالمستقبل.
تذكرت الفتيان الذين كانوا يسبقوننا إلى بستاننا، يتسورون الأسوار لاشتهاء الرمان. لم يكن غيظنا منهم بسبب الثمار التي يأخذونها، بل بسبب الفرحة التي لم تكتمل ونحن ننتظر أن نكون أول من يقطفها. تلك الشجرة التي غرستها بيديّ، رأيتها تكبر كما كبرت أنا، كنت أسأل نفسي يومًا بعد يوم: هل تذكرني الشجرة؟ هل تحفظ صوتي وأنا أغني تحت ظلها؟ هل تروي أوراقها حكاية صيف مررنا به معًا، وأنا أراقبها تنمو كأنها تعيش من أجل أن تظل جزءًا من ذاكرة أطفالي؟
في أرض اليمن، لا يُذكر الرمان غارسه فقط، بل يذكر كل من مرّ بجواره، كل من استظل بظله، كل من قطف ثماره أو حتى حلم بذلك. الرمان ليس مجرد شجرة، هو وطن صغير، حكاية مقاومة، شاهد على أن الأرض ترفض أن تسقط، حتى لو تعاقبت عليها كل أنواع الطغاة.
الرقم لا يكذب، 2630 هكتارًا من الأرض تحتضن الرمان، أكثر من 8 أضعاف أرباح القات، و9.546 طنًا في كل هكتار يزرع بعرق المزارعين. أرقام تجسد الصمود، أرقام تروي قصة حياة على وشك أن تُمحى إن استمرت العنصرية في حصارها.
في صواني الرمان التي كانت تزين بساتين الحدأ، في غابات الزيتون الممتدة على سفوح فلسطين، في كل شجرة تنمو بإصرار وسط الخراب، نقرأ حكاية واحدة: شجرة لا تبكي ولا تضحك، لكنها تقول: «أنا الأرض، أنا الحياة».
لك الله يا يمن.
** **
- كاتب وصحافي من اليمن