د.زيد محمد الرماني
تطلع علينا مؤسسات استطلاع الرأي، بصورة منتظمة، بتقارير حول قناعة الناس - أو عدم قناعتهم - بأحوالهم المادية وآفاقها المستقبلية. وقلما تسمع أحداً يقول ((إن دخلي يفوق احتياجاتي الحقيقية)). بيد أن أفعال الناس تعكس مشاعرهم أفضل مما تعكسها أقوالهم، والطريقة التي ينفقون بها أموالهم تلقي الضوء بشكل خاص على آفاق استمرارية التقدم.
تتطلب سلع ((الموضة)) والترف أسعاراً باهظة حتى في قمة مراحل الركود الاقتصادي، فالفستان أو الحقيبة النسائية التي تحمل ((ماركة)) مشهورة قد تصل تكلفتها إلى 5000 ريال أو يزيد، والكثير من الأحذية الرياضية التي تصنعها شركات معروفة تباع بالمفرق بسعر يربو على 350 ريال. أما بطاقات الائتمان الذهبية والبلاتينية فإنها لا تقدم لأصحابها أية خدمات إضافية ذات معنى مقابل الرسوم السنوية العالية التي يدفعونها. وبعض أنواع الساعات تباع بصورة اعتيادية بأسعار تتراوح بين 4500 و 20000 ريال، أي بما يعادل قيمة سيارة مستعملة. ومن الواضح أن الذي يحرك هذه المشتريات ليس قيمتها الذاتية.
أما مصروفات الترفيه فهي من حيث الجوهر غير ضرورية ولكنها أعلى بنود الإنفاق تكلفة. إذ إن تذكرة حضور حدث رياضي كبير قد تبلغ تكلفتها عدة مئات من الريالات.
وبالإجمال، فإن مصروفات الترفيه (بدون حساب مصروفات الوجبات الخارجية والسفر الترفيهي) تتجاوز المصروفات الاستهلاكية الأسرية للخدمات والغاز والبنزين مجتمعة. وتصل فاتورة غداء لشخصين في أي من المطاعم المعروفة العديدة في معظم المدن إلى ما يزيد على 400 ريال، وهو مبلغ يكفي لإطعام عائلة لمدة أسبوع. وحتى في المطاعم العادية، يصل سعر وجبة الطعام إلى عدة أضعاف تكلفة الغذاء المنزلي، ولكن هذا لا يحول دون إقبال الكثير من الناس على تناول طعامهم خارج المنزل بين الحين والآخر.
ويدفع ملايين من الناس رسوماً شهرية لقاء اشتراكهم في الأندية الصحية، ولا يستخدم هذه الأندية عادة إلا عدد قليل نسبياً من هؤلاء المشتركين، وأقل منهم أولئك الذي يمارسون رياضة فيها رغم استطاعتهم ممارسة التمارين ذاتها في منازلهم.
يقول سي بايبك في كتابه ارتقاء التقدم : لم تعد الوفرة ميداناً مقتصراً على شريحة اجتماعية عليا ضيقة. بل إن الضواحي العادية للطبقة الوسطى تقدم أدلة وفيرة فائض الدخل. إذ تستهلك قنوات الصرف الترفيهي في العادة ما مقداره عدة مئات من الريالات في اليوم الترفيهي الواحد من دخل الفرد.
وأصبح أمراً عادياً أن ينفق عروسان وأهلهما عدة آلاف من الريالات على حفل الزفاف وتجهيزاته المختلفة. والنساء اللاتي يمكن تصنيفهن في إطار الدخول المتراوحة بين المتوسطة والعليا قد تتملك الواحدة منهن عدة عشرات من الأحذية، كما أصبحت الجراحات التجميلية وتقويمات اعوجاج الأسنان عمليات منتشرة على نطاق واسع، بعد أن كانت مقتصرة فيما مضى على كبار الشخصيات. وأصبح من يود إجراءها يقوم بذلك حتى ولو لخلل بسيط في المظهر، ولبعض العيوب التي لا يشعر بها إلا الشخص ذاته أحياناً. ومحلات البقالة تبيع زجاجات الماء، التي تضاف إليها نكهة بسيطة أو القليل من الكربون، بسعر يعادل ثلاثة أو أربعة أضعاف سعر البنزين. وأصبح التسوق نشاطاً ترفيهياً رئيسياً للكثيرين.
ومن الواضح أن دخل الكثير من الناس يتخطى احتياجاتهم مهما ألحوا في التأكيد على نقيض ذلك، بيد إن انغماس الناس في مصروفات كهذه هو انغماس لا عقلاني من نواح أخرى. إن وفرة من هذا النوع تجعل من الصعب تحفيز الناس لأنهم لا يحصلون فقط على ما يحتاجون بل على الكثير إلى جانب الاحتياجات الأساسية. وحتى لو انخفض الدخل فلن يترتب على ذلك سوى صعوبة بسيطة. وفي ظل حصولهم على أجور عالية يتعزز لديهم عدم تحمل ساعات العمل الطويلة، والملل، والإحباط، وكثرة الأسفار الخاصة بالعمل أو أية منغصات أخرى للعمل. ولم يعد الادخار في صدر أولويات هؤلاء الذين ينفقون مداخيلهم بهذه الوسائل، بل إنهم أصبحوا ينظرون إلى العمل الشاق والادخار والتضحية ومفارقات تاريخية أخرى مماثلة بعين تخلو من الإدراك والعمل والإقرار.
ومن شأن الوفرة المتزايدة في مجتمع ما أن يقلل من حوافز العمل حتى في أوساط أدنى القطاعات دخلاً، وإن كان ذلك يتم عبر آليات متباينة. فالناس مضطرون بالضرورة إلى احتمال الفقر إذا كان سائداً حولهم. أما أولئك الذين يعانون من الفقر المدقع فيتعين عليهم أن يبحثوا لأنفسهم عن طريق للخلاص، ولكن وسيلة التخفيف من مصاعب حياتهم لا تتوافر بسهولة.
وهكذا فإن تصاعد الوفرة من شأنه أن يؤدي إلى وهن الحوافز في جميع قطاعات الدخل المختلفة، تلك الحوافز التي يفترض أن تنعش وتفرز أخلاقيات العمل لدى كل فرد في العملية الاقتصادية. إن أخلاقيات العمل تضعف ولن يقوى التقدم المادي على تحمل هذا التراجع. وكما قال فيكتور هوجو ((إذا كانت أمنياتنا تتمثل بالجلوس، فلربما توقفت عجلة التقدم، بل وحتى عجلة تقدم الجنس البشري)).