د. عيد بن مسعود الجهني
الدول العربية التي يبلغ عدد سكانها 470 مليون نسمة تحتضن 130 مليونا تحت خط الفقر.
لذا يجب أن يكون في مقدمة أهدافها علاج محنة الفقر وانتشال تلك الفئة من الهوة السحيقة التي يعيشون فيها.
ولذا لابد أن تدشن مشاريع في الدول العربية طموحة لتأمين الحد الأدنى من المعيشة لهؤلاء الفقراء، خاصة في الدول التي تتمتع بثروات كبيرة من إيراداتها من النفط والغاز.
السودان صاحب الخيرات العديدة والثروات من نفط وأنهار مثل حي مزقته الحروب الداخلية طمعا في السلطة، فبعد أن اقتطع منه حوالي ثلث مساحته فحصل جنوب السودان على دولة خرجت من رحم دولة السودان ولتصبح الدولة رقم (193).
وما يدور في السودان اليوم من رحى حرب داخلية حتى إن معظم أهلها أمام وطأة النيران المشتعلة والفقر والجوع والمرض الذي اجتاح البلاد هجروا وطنهم الذي بلغت نسبة الفقر فيه (80) في المئة، ولا تقل الحالة المعيشية والأمنية في الصومال عن السودان فنسبة الفقر فيه دقت باب الـ(75) في المئة.
وبهذا فإننا استثنيا دول مجلس التعاون الخليجي التي تتمتع باستقرار امني واقتصادي وسياسي وثروات من نفط وغاز وغيرها مبتعدة عن شبح الفقر، فإن عددا كبيرا من الدول العربية يرزح سكانها تحت وطأة الفقر المدقع حتى إن ثلث المواطنين العرب وفي مقدمتهم فلسطين يعيشون تحت مقياس خط الفقر.
هذا مشهد من مشاهد الجياع الذين يتعرضون للفقر وحروب إسرائيل وأمها أمريكا على ديارهم كسرا للقانون الدولي والأمم المتحدة وقرارات مجلس أمنها، يواجهه مشهد أهل الثراء.
ففي تقرير (مؤسسة أوكسفان التنموية الدولية) السنوي نشرته عام 2017 جاء فيه أن ثمانية أشخاص في هذا العالم الرأسمالي ثرواتهم تعادل ما لدى (3.6) مليار إنسان يعيشون على كوكب الأرض، ناهيك أن جائحة كورونا كانت سببا رئيسا في زيادة الأغنياء على حساب الفقراء، وهذا يبرز الفجوة الخطيرة بين القلة التي تملك الثروات الطائلة والأغلبية الذين لا يملكون قوت يومهم.
التقرير في تقديراته الإحصائية يؤكد أن عاهة الفقر تتزايد بينما سفينة الثراء تتسع ففي الفترة من 1988 - 2011م تركزت الثروة في أيدي (1) في المئة هم الأكثر ثراء وما بين 2017 و2024 زاد عدد المليارديرات في العالم ليبلغوا (2781)، وزاد عدد المليونيرات على مستوى العالم ليبلغ (26) مليون ثري، (14) منهم يملكون حوالي تريليوني دولار.
وعلى ذمة (مؤسسة أوكسفام الخيرية الدولية) فإن أغنى 26 شخصا من أثرياء العالم يملكون ما يعادل ثروة نصف سكان العالم عندما بلغ مجموع ثرواتهم عام 2024 (14.02) تريليون دولار بزيادة (1.1) تريليون عن عام 2023 وهؤلاء أعضاء نادي الـ(100) مليار دولار الذي من يملكه يصبح من أعمدة هذا النادي.
وهذه الثروات بازدياد عام بعد آخر، أما الفقراء والعاطلون عن العمل فعددهم يزيد بسرعة الصوت ولا يجدون عونا أو لمسة مساعدة من هؤلاء الأثرياء سوى كلمات عطف ورأفة أثرها كالسراب.
هذه الثروات الهائلة التي تتضخم بشكل مهيب عاما بعد آخر أصحابها في الدول الصناعية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا والصين واليابان، فرنسا، بريطانيا، السويد، سنغافورا، وقارة آسيا التي نعيش على أرضها لها نصيب الأسد، فالذين يسيطرون على الثروات فيها بلغ عددهم أكثر من (600) ملياردير، وهذا طبقا لدراسات تصدرها بيوت خبرة في الولايات المتحدة وهونغ كونغ وغيرهما.
إن هذه الأرقام الفلكية توضح لنا بجلاء الفجوة الكبيرة بين من يملكون الثروات، ولو نظرنا إلى حال من لا يملكون شيئا يذكر لوضحت لنا المعادلة -غير العادلة- وكثيرا ما شهدنا مؤتمر (دافوس) الشهير الذي يضم الكثيرين من أهل الثروات ورجال المال والاستثمار وساسة حاليين وسابقين، ويغيب عن هذا المنتدى إلى حد كبير مواجهة تحدي الفقر والعوز الذي يعاني من وطأته نسبة كبيرة من سكان هذا الكوكب، وكل موضوعات ذلك المنتدى تتركز في معظمها على الاقتصاد الدولي ومستقبله والتضخم ومحاولة الحد منه، بل يمتد النقاش إلى الشق السياسي، ويسعى البعض من مرتاديه إلى الظهور الإعلامي..الخ.
إذا الفقر كارثة كبرى تحتاج من دول العالم المنضوية تحت مظلة الأمم المتحدة التعاون الجاد للوقوف في وجه هذا الوحش المفترس، كما هم يقفون اليوم ضد الإرهاب الأسود الذي يهدد الدول والمجتمعات فشنت عليه حربا لا هوادة فيها.
اليوم حريّ بهذه الدول غنيها وفقيرها أن تشمر عن سواعدها لتضمن لهذا العدد الغفير من البشر الذين يتضورون جوعا تمكينهم من الحد الأدنى من الطعام والصحة والتعليم والمياه الصحية ليستفيدوا ولو بنزر قليل من الثراء الفاحش الذي يعيشه الأغنياء لكسر شوكة الفقر، أو على الأقل الحد من سطوته على البشر.
هؤلاء المحرومون الجائعون الذين نقّص عليهم الفقر حياتهم وملأها بالآلام والحسرة ولونها بلون الحزن الكئيب وهدّ الجوع والمرض قواهم كما تنقل لنا وسائل الإعلام هروبهم من بعض الديار العربية لا يستطيع بعضهم أن ينهض من على الأرض بسبب الضعف والهزال الذي هدّ أجسادهم.
وواحدة من أفضل وسائل الحد من الفقر تبني الأمم المتحدة والدول الغنية وفي مقدمتها الدول العربية والإسلامية تأسيس بنوك لمحاربة الفقر، ودولنا العربية ومعها الإسلامية يمكنها تخصيص نسبة ضئيلة من الزكاة لدعم هؤلاء البنوك، قال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) البقرة 271.
وحتى الهيئات والجمعيات الخيرية مساهماتها يمكن أن تكون فعالة دعما للفقراء قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فاطر 15، وقال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (تجتمِعونَ يومَ القيامةِ فيُقالُ: أينَ فُقَراءُ هذه الأُمَّةِ ومساكينُها؟ قال: فيقومونَ فيُقالُ لهم: ماذا عمِلْتُم؟ فيقولونَ: ربَّنا ابتَلَيْتَنا فصبَرْنا وآتَيْتَ الأموالَ والسُّلطانَ غيرَنا فيقولُ اللهُ: صدَقْتُم قال: فيدخُلونَ الجنَّةَ قبْلَ النَّاسِ ويَبقى شِدَّةُ الحِسابِ على ذَوي الأمْوالِ والسُّلطانِ). أخرجه ابن حبان، وقال صلى الله عليه وسلم: (تعوَّذوا باللهِ مِن الفقْرِ والذِّلَّةِ، وأنْ تَظْلِمَ أو تُظلَمَ) أخرجه ابن حبان.
وفي الصحيحين أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) متفق عليه.
إننا في زمن يشهد وجه الفقر المدقع - يقابله الثراء ولكل واحد منهما له خطره، فالفقر نوهنا عن سحابة شدته، والغنى قد يكون ضارا فالتباهي بالثراء الفاحش وحياة الرغد والرفاهية، فمنظر الفقر الكالح يجعل خطره أقل من سطوة الغنى تصديقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
لذا يكسب الفقراء إن شاء الله الجنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدْخُل الفُقَراء الجنّة قبْل الأَغْنياء بِخمسَمائَة عَامْ) رواه الترمذي.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
صبْر الفَتى لِفقْره يُجِلُّه
وبَذْلُهُ لوَجهِهِ يُذلُّه
الدول العربية التي يبلغ عدد سكانها 470 مليون نسمة تحتضن عددا غفيرا من الفقراء، لذا يجب أن يكون في مقدمة أهدافها علاج محنة الفقر وانتشال تلك الفئة من الهوة السحيقة التي يعيشون فيها، ولذا لا بد أن تدشن مشاريع في الدول العربية طموحة لتأمين الحد الأدنى من المعيشة لهؤلاء الفقراء، خاصة في الدول التي تتمتع بثروات كبيرة من إيراداتها من النفط والغاز.
والله ولي التوفيق..
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة