العقيد م. محمد بن فراج الشهري
إن أمتنا بما تمتلك من إرث حضاري عريق لا زالت تمتلك من المقومات ما يمكنها من استتباب مشروعها الحضاري النهضوي، وتخلق تراكمات تمكنها من بناء مركز قوة، وقاعدة مهمة من قواعد ارتكاز الشعوب المقهورة، في كفاحها المفتوح ضد المشروع الصهيوني المتوحش. وهذا ليس بجديد عليها، فقد تمكنت من ذلك في الواقع العملي التاريخي. فهي حملت بتجربتها العملية الطمأنينة والسلام، وجسدت على أرض الواقع كيفية تحقيق التطور الإنساني المشترك دون إخضاع ولا خضوع، ليس لمن اعتنق الإسلام فحسب، بل لكل الشعوب التي احتكت بها.
فبلادنا العربية هي مهد الحضارات الإنسانية، وعلى أرضها كانت الدعوة الأولى لرفض عبودية الإنسان، وإلى عبادة إله واحد أحد.
فبينما كانت قبائل العالم القديم كل يسعى إلى إله خاص يختص بها، جاء سيدنا ابراهيم ابو الأنبياء برسالة التوحيد، توحيد البشر جميعاً على عبادة إله واحد. فكل البشر متساوون أمام هذا الخالق، لهم نفس الحقوق والواجبات أياً كان أصلهم أو انتماؤهم الجغرافي.
وبنى مع ابنه إسماعيل الكعبة المشرفة - بيت الله الحرام - من دخلها فهو آمن، بغض النظر عن المكان الذي أتى منه أو القبيلة التي يحمل اسمها، واستحوذت الكعبة كمنارة لحضارة التسامح والإخاء والمساواة والأمن على أفئدة الناس جميعاً في المنطقة، مما آثار حسد الأقوام الأخرى التي سعت إلى تدمير هذه المنارة الجديدة، فكانت محاوله أبرهة ملك الحبشة لهدم الكعبة، رمز التوحيد والعدل والمساواة بين الشعوب، ولكن كان للكعبة رب يحميها.
واستمر الصراع بين الاتجاه الإنساني الذي يرى في الإنسان قيمه بحد ذاته، يجب أن تسخَّر كل الأشياء لخدمته، وبين نظرة ترى أن الإنسان كغيره من الأشياء لا قيمة له بحد ذاته كإنسان، بل إن قوته وسيطرته وما يملك هي التي تحدد قيمته، حيث كان اليهود أول من حاد عن طريق الصواب، بعد أن قام أحبارهم بتوجيه الديانة اليهودية التي نزلت على سيدنا موسى - عليه السلام - عن مسارها التوحيدي، حيث جعلوا منها ديانة مغلقة وخاصة باليهود دون غيرهم، واعتبروا أنفسهم شعب الله المختار، حيث كان ذلك خلال السبي البابلي التي كتبت خلاله أغلب أسفار ما تسمى التوراة الحالية، لتخدم مصالح طبقة من اليهود؛ لتبرير الاستيلاء على الأرض والرغبة في السيطرة والنهب ولتصبح التوراة وثيقة عنصرية تحرض ضد الإنسان، وتبيح المحظورات في سبيل جمع المال، وعتوا في الأرض فساداً وتحكموا بواسطة مهنة الربا الخالية من كل أخلاق وشرف في أوضاع كثير من الشعوب، ولذلك تعرضوا لانتقام الآخرين وحروبهم واخترعوا لهم إلهاً خاصاً بهم (يهوه) إله حرب وشر، يقود اتباعه لتدمير كل الشعوب بهدف السيطرة على ثرواتهم لتصبح ملكاً خاصاً لهم. وأصبح منذ هذه اللحظة أي شخص لا ينتمي للاثنتي عشرة قبيلة لا يمثل جزءاً من الشعب المختار من الله عن طريق هبة الأرض والوحي بالشريعة، وهكذا وجد الآخرون الحقيقية الحضارة اليهودية أنفسهم كالبرابرة بالنسبة لليونان مطرودين من الحضارة الوحيدة الحقيقية، الحضارة اليهودية.
وبعد تسعة قرون جاء المسيح، ودعوته الكونية التي حشدت أكبر طاقة في تاريخ البشر والآلهة، تلك الآلهة التي كان يجري تصورها حتى ذلك الحين على أنها ملوك جبابرة، وفتح الطريق الأول لحياة مبدعة بتحطيم الممنوعات القديمة وخصوصية الشريعة، وبقطيعة مع المفهوم القبلي والوثني لإله جزئي ومنحاز قد اختار شعباً محدداً، مذكرا بأن الله هو أبو كل البشر... جاء عيسى - عليه السلام - هادياً للبشرية، ومنقذاً لها من سطوة الحاخامات والمرابين وليطهر الهيكل من رجسهم، وليؤكد للناس جميعاً معانى الأخوة والمحبة والسلام والرحمة، ولكن هذه الدعوة لم تسلم من التشويه على يد بعض الأدعياء الذين كان لادعاءاتهم اليد الطولي في حدوث الانقلاب البروتستانتي باسم الإصلاح الديني، والذى أعاد المسيحية إلى أحضان اليهودية. وكان هناك رجل يعرف جيداً كلتا الثقافتين وهو بولس الطرطوسي.. وقد أنجز توليفة منادياً فيها بزعامة يسوع، وبلور مذهباً لا يرجع أبداً إلى كلمات يسوع وممارساته في حياته، لكي يجعل من النجار الفقير في الناصرة: مسيح (باليونانية خريستو Christos) اليهود وخليفة داود.
ثم جاء الإسلام الحنيف مكملاً لرسالة الحق، لخدمة الإنسان وإسعاده، دين رحمة ومساواة وعدل ليوحد العرب ويرفع الظلم عنهم وعن شعوب كثيره استعبدتها إمبراطوريات ذلك الزمان، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، ونشأت حضارة إسلامية عظيمة وحدت شعوب وقبائل من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق تحت راية واحدة وجد الجميع في ظلها الأمن والسكينة والسلام والفرصة للإبداع والتطور. فقد فتح المسلمون عبر تاريخهم الطويل صدورهم لغير المسلمين.
ولنا أمل أن نأخذ من التاريخ دروساً وعبراً وأن تعود أمتنا العربية مترابطة تسمح للنور أن يشع منها من جديد, وتستعيد كرامتها وتاريخها المجيد.