د.زيد محمد الرماني
الغروندريسة هي الذروة في نهاية رحلة طويلة وشاقة، على حد تعبير نيكولوس أحد أبرز دارسي ماركس، فخمس عشرة سنة من البحث الفلسفي والاقتصادي هي خيرة سني حياة ماركس محتواة في صفحات العمل.
وإذا كانت (الغروندريسة) مبهمة، ومجتزأة في بعض نواحيها، فإنها كذلك العمل الكامل الوحيد الذي كتبه ماركس في الاقتصاد السياسي، من هنا صعوبة وضرورة قراءته في آن واحد.
بيد أن الدراسة المطولة المهمة التي قدم بها نيكولوس (الغروندريسة) لتبيان قراءة هذا العمل، كافية إلى حد ما فقد أبرز نيكولوس المزايا والصعوبات.
إن (الغروندريسة) ليست عملا اقتصاديا فحسب، بل لعل بعدها الفلسفي يحظى بالأولوية في تناول ماركس، وربما كان هذا سببا لتأخر ترجمتها لا إلى العربية فحسب، بل إلى اللغات الأخرى.
فقد صدرت ترجمتها الفرنسية الأولى عام 1967م، وأول ترجمة إنجليزية عام 1973م.
إنها على العموم عمل حديث الاكتشاف نسبيا إذ تكفي الاشارة إلى أنها نشرت للمرة الأولى بعد وفاة لينين بخمس عشرة سنة.
وهي مع (نظريات القيمة الفائضة) تمثل آخر عملين كبيرين لماركس. إن الإبقاء على المفردة الألمانية (الغروندريسة) كعنوان للعمل بالعربية يعود إلى سببين:
أولهما أن العمل صار معروفا بهذا الاسم حتى في الترجمات الأخرى غير النص الألماني الأصلي.
وثانيهما لأن الاكتفاء بعنوان (أسس نقد الاقتصاد السياسي) وهو المقابل الدقيق للعنوان قد يوحي بالالتباس مع عمل آخر ترجم إلى العربية أكثر من مرة هو (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي).
إن (الغروندريسة) ذات غنى وصعوبة بالغين في أسلوب عرضها ومحتواها ولغتها، فهي مجموعة دفاتر كتبها ماركس لنفسه ولم تكن معدة للنشر. إنها سلسلة من سبعة دفاتر، صاغها ماركس كمسودات أولية خلال شتاء 1857 - 1858م لأغراض التوضيح الذاتي بالدرجة الأولى، وقد فقدت المخطوطة في ظروف لاتزال غير معروفة ولم تنشر في الواقع إلا عام 1953م، وبنصها الألماني.
ومن بين أعمال ماركس التي نشرت للمرة الأولى في القرن العشرين، تعد (الغروندريسة)، بلا جدال، العمل الأكثر أهمية ولا يمكن مقارنتها من حيث الأهمية إلا بنظريات القيمة الفائضة، والمخطوطات الاقتصادية الفلسفية لعام 1844م.
لقد عد ماركس محتويات هذه الدفاتر، أول صياغة علمية للأسس النظرية للشيوعية، وإضافة إلى قيمتها التاريخية وأهميتها في فهم مسيرة حياة ماركس، فهي تضيف مادة جديدة غزيرة وتمثل المخطط الوحيد لمشروع ماركس السياسي - الاقتصادي بكامله.
وتكشف المخطوطات العناصر الأساسية في تطور ماركس وتجاوزه للفلسفة الهيغلية، كما تلقي ضوءا جديدا على المنطق الداخلي لـ(رأس المال)، وهي مصدر ذو قيمة لا تقدر لدراسة أسلوب ماركس في البحث.
إن (الغروندريسة) تتحدى كل تفسير جدي تم طرحه لماركس حتى الآن وتضعه أمام الامتحان.
بالنسبة لحياة ماركس تتوسط كتابة (الغروندريسة) بين صدور بيان الحزب الشيوعي عام 1848م، والجزء الأول من (رأس المال) عام 1867م.
فقد حفزت أزمة 1857م الاقتصادية ماركس على تلخيص وكتابة الدراسات الاقتصادية لمدة عقد ونصف العقد.
لكن ذلك لم يكن سوى الزناد، أما مصدر الاندفاع في العمل فيكمن في ثورات 1848 - 1850م أو بتعبير أدق في هزيمة تلك الثورات.
فشبح الشيوعية الذي تحدث عنه بيان الحزب الشيوعي ظهر للمرة الأولى ككل متماسك على المسرح السياسي في سلسلة من الانتفاضات والحروب الأهلية شملت فعليا كل دولة، وأمة وكل مملكة وإمارة في قارة أوروبا.
لقد عاش ماركس طوال الخمسينيات في بؤس حقيقي، إذ كان مصدر دخله الوحيد خلال العقد ناجما عن كتابة المقالات لصحيفة (نيويورك تربيون) ولدائرة المعارف الأمريكية الجديدة وكان أجره أقل من أجر الكتاب المستأجرين بالقطعة، ومن باب المفارقة أن أجره كان يدفع متأخرا عن الموعد على الدوام.
وعاشت العائلة في واحد من أفقر أحياء لندن يطاردها الدائنون والمؤجرون، ومرت أيام لم يستطع فيها ماركس مغادرة البيت لأن حذاءه ومعطفه كانا مرهونين وفاقم وضعه المالي المرض الدائم الذي كان يصيبه أو يصيب أحد أفراد عائلته.
كتب ماركس مرة يقول لم يكتب أحد قط عن النقود بوجه عام وسط مثل هذا العوز الخاص للنقود.
ولا يزال مجرى دراسات ماركس الاقتصادية بين عامي 1850 - 1857م مجهولا نسبيا، فبين أيلول 1850م وآب 1853م ملأ أربعة وعشرين دفترا بملاحظات عن قراءاته في مواضيع السلع والنقود ورأس المال والعمل الأجير والملكية العقارية والتجارة الدولية وتاريخ التقنية والاختراعات والائتمان ونظرية السكان والتاريخ الاقتصادي للدول وتاريخ التقاليد والسلوك والأدب والسوق العالمية والاستعمار وغيرها من القضايا.
إن النقود ورأس المال، وإن كانا مرتبطين، فهما كيانان متميزان يستحق الواحد منهما معالجة على انفراد، وتلك نقطة لن يوافق عليها كل اقتصادي.
إن ماركس طور حجته مفصلا ليغدو واضحا منها أن هذين المصطلحين (النقود ورأس المال) اللذين يحتل كل منهما عنوانا لفصل يلعبان أيضا دورا كمتضادين.
إذ تظهر النقود لتشير لا إلى مجرد قطعة ورق أو معدن، بل كنظام شامل من العلاقات الاجتماعية المنطوية على حضارة وشخصية معينة.
أما رأس المال فيظهر هو الآخر كنظام من العلاقات الاجتماعية، لكنه يستند إلى قوانين معاكسة للأولى تماما، ويقود إلى سياسة وحضارة نقيضة تماما، بحيث إن الاقتصاد الرأسمالي ككل يمكن أن ينظر إليه مدفوعا إلى الأمام ومقوضا في الوقت نفسه، بفعل التوترات الكامنة بين هاتين القوتين المكونتين له بشكل مشترك.
إن بعض العناصر في نظرية النقود كدورها ك (رمز) تبدو مصوغة بغير دقة حيث تعاني طريقة العرض من أخطاء مثالية.
نجم عن ذلك أن تلك الجوانب المحددة من نظرية ماركس في القيمة والنقود التي تعالج القضايا المثارة عادة تحت هذا العنوان في كتب الاقتصاد المدرسية معروضة بشكل أفضل في الأعمال التي أعدها ماركس للنشر بعد (الغروندريسة).
إن ماركس لا يكتشف أية وظائف جديدة للنقود بل تكمن مساهمته في كشفه للفرضيات الاجتماعية والسياسية للتعريفات المبتذلة للنقود التي تحويها كتب الاقتصاد السياسي المدرسية، أي أن ماركس يعالج النقود والقيمة كعلاقات اجتماعية.
وهو من ناحية ثانية يعالج الوظائف المختلفة للنقود في ترابطها، كاشفا التناقضات فيما بينها وضمنها، وهو يعالج أخيرا هذه الشبكة من العلاقات الاجتماعية في سياقها التاريخي باعتبارها نابعة من أصل وتنطوي على نهاية.
إن عرض ماركس للنقود والقيمة كعلاقات اجتماعية ذات تشعبات قانونية وسيكولوجية ضمن سياق تاريخي محدد هو ما يشكل بعض أكثر المقاطع قيمة مباشرة في الغروندريسة.
فكل فرد مالك وعامل في آن واحد والنقود هنا هي في الوقت نفسه رابطة اجتماعية، شيء اجتماعي يربط أشخاصا غير اجتماعيين، وتغدو حين تغضب طاغية يلهب بسياطه مياه السوق العالمية.
إن العلاقات بين الأفراد في هذا المجال هي علاقات الحرية والمساواة.
إن الحرية والمساواة بصفتها (مجرد أفكار) ليست إلا تعابير مثالية للعلاقات السائدة في دائرة التداول.
فالعلاقات الاجتماعية والسياسية التي تؤطر حرية ومساواة المالكين الأفراد هي مجرد بنى فوقية لما يجري في السوق.
هنا، وفي النقطة التي تشترى فيها السلع من قبل المستهلك النهائي يتساوى الغني والفقير فكل منهم يقف حسب الدور أمام أمين الصندوق في سوق الغذاء، ومن يصل أولا يشتري أولا.
بيد أن ماركس يعود إلى الموضوع مرة أخرى فيكتب قائلا إن الاقتصاديين السياسيين يقعون في خطأ جسيم حين يفترضون أن الأفراد ينطلقون أحرارا في السوق وبوساطتها ومن ثم فليس الفرد من ينطلق حرا خلال المنافسة الحرة بل هو بالأحرى رأس المال.
إن تحليل ماهية المنافسة الحرة هو الرد العقلاني الوحيد على أدعياء الطبقة الوسطى الذين يسبحون بحمدها رافعين إياها إلى السماء وعلى الاشتراكيين الذين يصبون عليها لعنات الجحيم.
العجيب، أن ماركس لم يزود دفاتره السبعة بعنوان شامل، والاسم الذي تعرف به المسودة اليوم هو مركب من اشارة مختلفة وردت في مراسلات ماركس، إذ فكر أولا بعنوان (نقد المقولات الاقتصادية) ثم اختار (نقد الاقتصاد السياسي).
إن (الغروندريسة) فريدة في نوعها، فهي أهم إنجازات ماركس إنها تجيء ككشف حقيقي يعرفنا بمختبر ماركس الاقتصادي، إنها سجل لذهن ماركس أثناء العمل، وكيف تلمس طريقه، إذ يعالج القضايا الجوهرية للنظرية الاقتصادية. تلك هي أثمن سمات (الغروندريسة).