عبدالعزيز صالح الصالح
ما يكتب عن مجال النقد وينشر في عصرنا الحالي يدركه العجب العجاب وتأخذه الحيرة والاستغراب، والتأمل والتفكر عما يكتبه البعض ويطلق عليه نقداً.. فالمرء يعجب من الواقع الَّذي آلت إليه هذه العملية من إغفال لمبادئ النقد الأساسيَّة ولمقاييِّسه وأصوله المعتمدة.. الكل مِّنَّا يدرك تمام الادراك أن قصَّة النقد قد مرَّت بأدوار ومراحل عدَّة فإنَّها تغير مفاهيم النقد من حال إلى حال، وتبدل وتطور إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن من علم منظم له قواعده ومعاييره المستقاة من مجموعة علم الاجتماع وعلم الجمال وعلم النَّفس والفلسفة التي عملت كلها على إخراج مادَّة النقد ممَّا كان فيه من حيرة وعشوائية إلى علم يرتكز على القياس والبراهين وعالمه الأفكار والحسابات الدقيقة.
لقد كان النقد في بدايته يدور حول ما يشبه التعريض، ومن هنا جاءت عبارة الصحابي الجليل أبي الدرداء لاحد محدثيه قائلاً: (إن نقدت النَّاس نقدوك وإن تركتهم تركوك).
ثم تطور هذا المعنى حتى أصبحت كلمة نقد تعني الحكم على الموضوع الفني من عدَّة جوانبه كلها بالحسن أو القبح.. بالجودة أو الرداءة؛ فالنقد الأدبيِّ صار يهدف بالدرجة الأولى إلى بيان قيِّمة القطعة الأدبيَّة أو القصيدة الشعريَّة فالتقويم من خلال الوصول إلى مجموعة مفاهيم وأفكار متوافقة ومتطابقة مع المقاييِّس، فالإلمام بهذا المجال مطلوب وذلك من أجل الصَّدق في الكتابة والتعبير.. فإذا أخذ الناقد بقواعد ومقاييِّس النقد استوعب علوم العصر وأفكاره وأخذ ما فيه من الكفاية فإن عمليَّة النقد ليست بالسهولة كما يتصوره البعض.. بل هي صعبة ومضنيِّة وقاسية هل يوجد لدينا نقد حكم به ونعالج من خلاله واقعنا الأدبيِّ بالشكل الصحيح.. وبالشكل البعيد عن الارتجال والميول الشخصيِّ..؟!! فالإجابة على مثل هذا السُّؤال.. يجب متابعة ما يكتب في الصدد وعبر الصحف والمجلات.. نقرأ.. نبحث.. ندقق تجد أن الذي يسمونه نقداً ينحصر في الأمور التالية: إذا كان الأمر بدافع الشهرة وحب الظهور.. أو جاء من أجل تدعيم صديق أو كسب مادِّيِّ.. أو جاء بدوافع عدائية - القصد من ذلك تحطيم الكاتب أو الأديب أو الشاعر وذلك من خلال قصيدته أو من خلال مقال أدبيِّ - أو من خلال هذا الجو المشحون بالحزن والأسى تفتقد الكلمة بعدها ومعناها الحقيقيين ويصبح الحكم على المادَّة الأدبيَّة خاضعاً لعوامل لا تمت بصلة قربى إلى ينابيع الأدب ومناهل الفن والحكمة والرؤى الخضراء - وكم من قطعة على جانب من الروعة والجمال الأخاذ لم يتح لها الحظَّ بالظهور، وذلك بسبب ريشة جاهل حاقد شوه معالمها وحطمها من عليائها - وتجد قلما غير مسؤول قد تجرد لها فوضعها في مكان غير مكانها ورفعها إلى قمَّة لم يكن صاحبها يحلم بوصولها إلى هذا المرتقى السّاحق الرفيع..!!
ومن خلال هذا العرض السريع المختصر يتضح لنا ابتعاد أبجديات النقد عن خط سيره الصحيح وانحرافه عن غايته وأهدافه المثلى في تقيِّيم العمل الأدبيِّ مع اعطاء كل ذي حق حقَّه في الحكم؛ حيث إن عمليَّة النقد في أساسها توجيهية أكثر منها مدحاً أو قدحاً فمن يجد في نفسه القدرة على البذل والعطاء.. فليتقدم إلى ساحة الصعاب.. او يترك السفينة لربانها يقودها نحو شاطئ الأمان والسَّلامة نحو عالم يزخر بالفكر والرؤى والإبداع. والله الموفِّقُ والمعين.