د. عيد بن مسعود الجهني
الفقر عاهة هذا العصر المتسم بالنزاعات والصراعات والحروب التي خرج من رحمها مهاجرون كثر، خاصة من بعض الديار العربية طالبين النجاة من القتل والتشريد لا يكادون يجدون لقمة العيش، يعيشون في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء بعضهم هلك في بطون البحار.
وفي تعريف مبسط فإن الفقر ليس نقصاً في دخل الإنسان، بل إنه يشتمل على العديد من العوامل الأخرى التي تصنع الفقر؛ فمثلا الدول التي تشهد حروبا ونزاعات وصراعات مسلحة داخلية وخارجية لها القدح المعلا في نسب الفقر العالمية، التي تتفوق على تعريف البنك الدولي الذي عرف الفقر بــ 1.9 دولار باليوم وهذا رقم لا يسمن ولا يغني من جوع، ويوضح بجلاء نكبة الفقر المدقع وأثره الشرس الواسع الذي يمتد إلى حقوق الإنسان التي يهدرها الفقر.
وتوضيحا لما ذهبنا إليه رأينا كيف حال الفقراء الخاوية بطونهم، الكاشفة عن عظام أجسادهم المنكسرة من وقع الجوع، هؤلاء الفقراء المعوزون عاجزون عن توفير الحد الأدنى من مستوى المعيشة في أقطار كثيرة من المنظومة الدولية التي تمثلها الأمم المتحدة التي عجزت ومعها البنك الدولي والمنظمات الدولية والدول صاحبة الثروات ان تكسر شوكة الفقر وتعين الفقراء الذين تجاوز عددهم 1.3 مليار إنسان يعيشون فقرا متعدد الأبعاد، عن كبح جماح الفقر أو حتى الحد من مسيرته البشعة رغم وعود المنظمة ومنظمات عديدة غيرها والدول الكبرى لجعل هذا العالم خاليا من الفقر. لكن تلك الوعود ذهبت مع الريح، فالمشهد اليوم يؤكد أن نهار الفقر طويل وان عدد فقراء العالم بازدياد متواتر عاما بعد آخر، فلا رعاية صحية ولا تعليم ولا عملا يدر دخلا لهم، ناهيك عن غياب استراتيجية اقتصادية دولية شاملة لتحدي غول الفقر، وخلق وظائف تحد من البطالة المقنعة التي هي إحدى عناصر الفقر الذي يزيد من حدة وقعه غلاء المعيشة بسبب التضخم الذي تزيد نسبته عاما بعد آخر، وزيادة أسعار السلع والخدمات، فأصبح مقياس الفقر الذي تحدده الأمم المتحدة والبنك الدولي بين (1.9) دولار أو دولارين غير كاف للقمة عيش واحدة.
كيف لفقير معدم أن يحصل على حاجاته الأساسية من طعام وتعليم وصحة.. الخ، بهذه الدولارات اليومية، إذا فرضنا حصوله عليها جدلا، ولنأخذ مثلا حيا من على أرض فلسطين وقدسنا الشريف المحتل، فنسبة الفقر بين أهل فلسطين المحتلة هي الأعلى في العالم وفي غزة وحدها بلغت النسبة 100 في المئة فجميع السكان يواجهون فقرا غير مسبوق في التاريخ الإنساني.
بل إن التضخم بلغ أكثر من 250 في المئة طبقا لتقرير للبنك الدولي حديث عنوانه (انكماش الاقتصاد الفلسطيني)، هذا التدني الرهيب بنسبة الفقر سببه الرئيس الحرب العنصرية المجنونة التي تشنها الدولة العبرية منذ أكثر من عام بدعم أمريكي تسبب بقتل عشرات الآلاف وجرح أكثر من 100 ألف وتدمير كامل البنية التحتية والصحية والتعليمية والكهرباء والمياه وأصبحت كل الأبنية أثرا بعد عين.
حدث هذا وأكثر منه والمجتمع الدولي وفي مقدمته أمريكا تتحدث عن العدل والمساواة والحرية والديمقراطية والسلام وها هو الشعب الفلسطيني آخر شعوب العالم المستعمر يواجه الخطط الإسرائيلية لفنائه.
وليست بلاد الرافدين بخيراتها العديدة من نفط وغاز التي بلغ احتياطيها 145 مليار برميل من النفط ناهيك عن أنهارها وزراعتها.. الخ، أحسن حالا فنقلت وسائل الإعلام بعضا منهم يلتقطوا لقمة العيش من القمامة فالفقر لهؤلاء (إزار من نار).
وإذا كان البنك الدولي في أحد تقاريره يذهب إلى التأكيد أن الفقر يتراجع بشكل ثابت في العالم، ويتحفظ البنك قائلا أن الحملة في القضاء عليه بحلول عام 2030 تواجه تهديدا بسبب تزايد الفوارق الاقتصادية بين الدول، لكن الحقيقة الثابتة تؤكد أن مشهد الفقر في عالمنا هذا، عالم الصراعات والنزاعات والحروب يحتضن عددا غفيرا من البشر الفقراء يزيد عددهم عاما بعد آخر، بل انه زاد بشكل أكبر خلال جائحة كورونا.
إذا الفقراء المحرومون من قوت يومهم يزداد عددهم خاصة في الدول الأكثر فقرا، والتي يطبق على السلطة فيها أنظمة دكتاتورية بشعة لا تقبل في التطور والتقدم والتنمية المستدامة، وتبقي اقتصادات بلدانها مغلقة مكبلة بالفساد المالي والإداري، حتى أصبحت دولهم غارقة في التأخر الاقتصادي والتنمية والصحة والتعليم.. الخ، فزاد عدد العاطلين عن العمل وزادت الفوارق بالدخل بين السكان لتبرز قلة تملك الثروات لتزيد ثراء ويزيد عدد الفقراء فقرا مدقعا.
إن عدد الجياع في العالم يمثل أكثر من (14) في المئة من تعداد سكان العالم، وهذه جريمة في حق الإنسانية جمعاء في زمن التسابق النووي والتطور التكنولوجي بعد أن غزا الإنسان الفضاء وبلغ القمر والمريخ وما بعدهما ومشى في الفضاء وأجرى رحلات سياحية إلى الفضاء الواسع.
وهذه الدول صاحبة تلك التطورات العلمية المذهلة هي صاحبة الثروات التي تحرقها في معظم الأحيان ولا تقدمها عونا للفقراء، وهي التي باختراعاتها الذرية والهيدروجينية عملت على الإسراع إلى فناء الإنسانية في زمن تغيّب التسامح والحوار وبرز شراك العداءات والتنافس بدلا من السلام الذي يعم برخائه الأوطان ويبعد عن العالم شبح الجوع.
وإذا عرجنا على لبنان الذي كان يطلق عليه باريس الشرق الأوسط والذي امتدت إليه حرب إسرائيل لتدمر بنيته الأساسية بأرضه قتلا وتشريدا؛ ففي تقرير حديث للبنك الدولي صدر في مايو 2024 أكد ان نسبة الفقر في لبنان بلغت 44 في المئة وان واحدا من كل ثلاثة لبنانيين في بعض المناطق أصبح ضحية الفقر في عام 2022 فكيف هي حال اللبنانيين اليوم، أنها حالة فقر وجوع وبؤس، وحرب ضروس تشن على هذا البلد العربي بعد أن انهارت عملته الرسمية ومعها اقتصاده.
أما الدول العربية الأخرى فعاهة الفقر فيها قد تكون أسوأ فمثلا الشام منبع الخيرات وعاصمتها دمشق التي تعيش اليوم ومعها بقية مناطق البلاد حالة بائسة من الفقر والعوز والبطالة، ولم يتأخر الأمريكان والروس والأتراك في ترسيخ ذلك، فالقواعد العسكرية منتشرة هنا وهناك، وفقدوا كل شيء وهاهم هائمون على وجوههم مشردون مهجرون في بلادهم وخارجها.
وعلى ذمة الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتريس أن 9 من كل 10 من السوريين داخل بلادهم تحت خط الفقر، ناهيك عن الذين غادروا ديارهم هربا من غول الفقر والجوع الذي بلغ عددهم أكثر من (12) مليون إنسان، منهم من هلك في الطرق والبحار.. الخ.
وتأتي اليمن الذي كان يطلق عليه (سعيد) ليصبح اليوم وسط ضجيج النزاعات والانقسامات والحرب الداخلية من أفقر بلاد العالم بعد أن بلغت نسبة الفقر في ذلك البلد (82.7) في المئة طبقا لتقرير الأمم المتحدة (قياس الفقر متعدد الأبعاد في اليمن) الصادر في فبراير 2024 وهذا رقم مخيف يوضح ان النسبة الأعظم في اليمن يعيشون تحت وطأة الفقر المدقع أي اقل من (1.9) دولار في اليوم. إن المعدة الفارغة ليس لها آذان، يقول امرؤ القيس:
ومَا يَدْري الفَقيرُ مَتى غِنَاه
ومَا يَدْري الغَني مَتى يَمُوت
إذاً، رغم أن هناك جهودا لتحدي الفقر لكنها مبعثرة لم يخرج من رحمها علاج ناجع لكابوس الفقر.
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة