د. محمد بن إبراهيم الملحم
يدور حديث متململ حاليا من توجه وزارة التعليم إلى إلغاء الإشراف التربوي في صيغته التقليدية، حيث كان المشرف التربوي يزور عدة مدارس ليقابل معلمين من تخصصه ويقدم لهم النصيحة والمشورة ويسهم في تقييم أدائهم التدريسي، وبدلا عن ذلك يتم تسكينه في المدارس بحيث يكون المشرف التربوي في إحدى المدارس بشكل دائم يقدم خدماته الاستشارية لجميع معلمي المدرسة بغض النظر عن التخصص فهو مصدر للخبرة في الشأن التربوي البحت من حيث طرائق التدريس واستراتيجياته وفنيات استخدام المعينات التعليمية وتوظيف تقنيات التعليم وحل المشكلات التعليمية وما إلى ذلك من الجوانب.
ويعد كثيرون اليوم هذا التوجه إلغاء للإشراف التربوي، وهو تعبير ينطلق من ألفتهم الطويلة للنموذج التقليدي الذي تم التحول عنه، مما يجعلهم يصفون هذا التحول بمفردة «إلغاء» الإشراف. ولا سيما أن أكبر مبرر يراه هؤلاء هو أن المدارس ستصيبها حالة من اللا مبالاة بالانضباط الوظيفي والتعليمي لغياب زيارة المشرف الذي يعد مصدرا للسلطة النظامية، إذ يمثل إدارة التعليم، بينما في النموذج الحالي أصبح المشرف التربوي بمنزلة أحد أعضاء الهيئة التدريسية في المدرسة نظرا لدوامه المستمر فيها مما يعطيه «سيكولوجيا» صورة مماثلة للمعلم، وهو ما يقلل من «هيبة» المشرف ويتراجع نتيجة لذلك دوره «الرقابي» الذي كانت الإدارات التعليمية تعول عليه في «ضبط» النظام في المدارس وخاصة في الأزمات وأيام الاختبارات وأمثالها من مواسم الدوام، ولا شك أن هذا التصور هو إرث قديم من مفهوم «التفتيش» التربوي الذي كان سائدا في الستينيات والسبعينيات الميلادية ثم تغير بعدها إلى مفهوم «التوجيه» التربوي ثم يتبعه بعد ذلك مفهوم «الإشراف التربوي» في التسعينيات الميلادية وبين الأخيرين فرق يسير.
ولست بصدد نقد أو مناهضة التوجه الجديد فلست أعلم أسبابه ومبرراته فقد تكون مقنعة وذات وجاهة، ولكنني أقدم هنا مناقشة لهذا التحول فأولا أجد أن المشرف هنا سيصبح مصدرا وحيدا للخبرة في المجال التربوي البحت ويترك مقعده في التخصص العلمي: لغة عربية أو إنجليزية أو رياضيات أو علوم أو تربية إسلامية، فهو ما يعني ضمنا عدم العناية بالجانب التخصصي بالتدريس فلا يوجد زيارات للتأكد من جودته خاصة لدى المعلم المسجد والتركيز هو فقط على العطاء التدريسي في المقام الأول، كما أن المشرف لم يعد يتنقل بين المدارس ويتعرض لخبرات متعددة فينقلها بين المعلمين وإنما هو محصور في مدرسة واحدة مما يجعل دوره قاصرا على تقديم خبراته الذاتية فقط وهو ما يعني أن استفادة المدارس من المشرفين التربويين ستكون متفاوتة جدا، فكل معلم ستتحقق له استفادة نسبية بحسب قوة وعمق وشمولية وخبرة المشرف الذي بمدرسته طوال العام وربما على مدى الأعوام القادمة في حال استمرار المشرف التربوي بنفس المدرسة على الدوام!
هناك تساؤلات مهمة تحتاج أن نلقى عليها شيئا من الضوء فمثلا إلى أي مدى تمت تهيئة المشرفين بتدريبهم على هذا النوع من الإشراف الشمولي وإلى أي مدى تأكدنا من امتلاك جميع المشرفين لهذا الدور «القيادي».. فحسب معلوماتي وخبرتي فإن اختيار المشرفين التربويين لم يكن يستهدف توافر القوة القيادية لديهم بقدر تمكنهم من المادة العلمية وجودة التدريس وهو شيء وإن كنت لا أؤيده تماما (حيث إني أرى ضرورة توافر الشخصية القيادية لدى المشرف) ولكن أعتقد أنه كان بحكم «الجود بالموجود» فهو واقع فرض نفسه من خلال عدم رغبة كثير من المعلمين الذين لديهم الموهبة القيادية في تسلم مهمة الإشراف التربوي وتفضيلهم البقاء في التدريس، خاصة في ظل عدم توفر مرغبات وظيفية للدور الإشرافي تاريخيا فلم تكن هناك علاوات أو مكافآت مالية للمشرف التربوي (وحتى ما تقرر لاحقا له أو لمدير المدرسة فإن كثيرا من العاملين لا يجدونه مغريا) وبالتالي فإن الاختيار كان ينصرف إلى أولئك المعلمين الذين لديهم رغبة فقط، أمام هذا الواقع وما توفر للإشراف التربوي من أفراد محدودين في ظل هذه الظروف والتي انحصرت في توفر قدر مقبول من الجانب التخصصي مع تمكنهم من التدريس الجيد، فقد كانت أدوارهم منحصرة في تقديم النصيحة والمشورة لمعلمي التخصص في الجوانب العلمية التي قد تنقص أولئك المعلمين أو التي يلاحظونها عليهم أثناء زياراتهم لهم، وخصوصا المعلمين المستجدين الذين في الأغلب تتضح لديهم هذه الحاجة أكثر من غيرهم، فهناك مثلا أخطاء في بعض الكتب المقررة أو جوانب تحدث التباسا وإشكالا لدى المعلم المستجد فيكون دور المشرف في تقديم التوضيحات اللازمة، كما أن دورهم أيضا كان مهما في تقديم النصيحة والمشورة في الجوانب التدريبية لتطوير أداء المعلم سواء المستجد أو غير المستجد وليس ذلك بالضرورة من خبراتهم الشخصية وإنما كانوا ينقلون الخبرات التي يشاهدونها لدى معلمين متمكنين في مدارس أخرى إلى المعلمين المحتاجين، فالمشرف التربوي إذن هو مصدر خبرة وناقل للخبرة في الوقت نفسه، أخيرا هذه القضايا حول الإشراف العلمي على التخصص والدور القيادي لحل المشكلات وكذلك الدور الرقابي ستظل محل تساؤل أتمنى أن توضع في الاعتبار عند تقييم هذه التجربة.
** **
- مدير عام تعليم سابقا