د. غالب محمد طه
ما الذي يحدث عندما تصبح الكلمة صوتًا؟ ما هي الكلمة؟ هل هي مجرد حروف تتناغم، أم أنها تجسيد لأفكارنا ومشاعرنا؟ هل الكلمة هي مفتاح لحكايات مختبئة، أم أنها مرآة تعكس عوالمنا الداخلية؟ وكيف يمكن لصوت واحد، مهما بدا بسيطًا، أن يحمل في طياته بُعدًا إنسانيًا يتجاوز المعاني السطحية، ليخلق رابطًا يجمع بين الأذن والقلب؟
وهل اقترب الوقت الذي سنستغني فيه عن الكلمة المكتوبة لصالح الكلمة المنطوقة؟ وهل كان بشار بن برد يستشرف المستقبل عندما قال:
«يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا»
هذا التساؤل يتجاوز كونه مجرد استفسار، بل هو دعوة لاستكشاف عمق تأثير الصوت في حياتنا. فهل أصبح البودكاست منارةً للإلهام، ليقدم لنا عوالم من الأفكار والمعرفة عبر صوت يتجاوز الحدود التقليدية؟ في عصر المعلومات السريعة والتغيرات المتلاحقة، يبدو أننا قد وصلنا لحقبة تتطلب وسيلة مرنة تتيح مشاركة المعرفة بطرق أكثر قربًا وملاءمة للحياة اليومية.
تشير الإحصائيات إلى أن 40 % من الأشخاص تحت سن الـ35 يستمعون إلى البودكاست بانتظام، مما يعكس اهتمام الجمهور بهذا النوع من المحتوى. أظهرت دراسات أن المشاركات الصوتية على منصات مثل «أنغامي» و»سبوتيفاي» شهدت زيادة بنسبة 50 %، مما يعزز مكانة البودكاست كبديل حديث يلائم أنماط الحياة المتسارعة.
لقد نجح البودكاست في إعادة تعريف الثقافة الإعلامية، ليصبح وسيلة تجمع بين نقل المعرفة والربط بين الثقافات من خلال الحوار والنقاش.
باتت البودكاستات الثقافية في العالم العربي تلعب دورًا بارزًا في نشر المعرفة وتوسيع دوائر الحوار، إذ تقدم محتوى يثري المجال الثقافي العربي من خلال مناقشة مواضيع تتنوع بين الأدب والنقد والتراث والفكر. هذا الانتشار يفتح المجال لأصوات جديدة تتناول قضايا مهمة وتستعرض رؤى متنوعة، مما يُعد خطوة حيوية نحو تشكيل محتوى ثقافي غني يلبي اهتمامات جمهور واسع ومتزايد، ويعزز من الوعي المجتمعي عبر فتح باب النقاشات العميقة حول القضايا الثقافية المعاصرة.
أحد أهم مميزات البودكاستات هو سهولة الوصول والمرونة؛ فهي لا تتطلب أكثر من جهاز ذكي واتصال بالإنترنت، مما يجعلها وسيلة جذابة. يمكن للمستمعين الاستماع إلى حلقاتهم المفضلة في أي وقت، سواء خلال قيادة السيارة أو ممارسة الرياضة، مما يمنح تجربة ثقافية تتناسب مع جداول حياتهم اليومية. هذا ما جعل البودكاست بديلاً مرنًا للأشكال التقليدية للإعلام الثقافي، يجذب المستمعين الذين قد يجدون صعوبة في تخصيص وقت للقراءة.
ومع هذا التحول، يتعين على الصحف ووسائل الإعلام التقليدية مواكبة هذا التطور. فالتحول الرقمي يتطلب تغييرًا عميقًا في بنية الإنتاج الإعلامي وتبني مجموعة من الوسائط الحديثة، بما فيها البودكاست، للوصول إلى جمهور أوسع. ويجب أن تكون المؤسسات الإعلامية مستعدة لتقديم محتوى متنوع وغني يواكب متطلبات العصر الرقمي من خلال دمج البودكاست في استراتيجيتها. يتيح هذا التحول أيضًا للمؤسسات الإعلامية فرصة للتفاعل الفوري مع الجمهور من خلال التعليقات والآراء المباشرة، مما يعزز من الحوار والتواصل بين الإعلام والمجتمع.
ومع انتشار البودكاست، يواجه هذا النوع من المحتوى تحديات عدة، من بينها التمويل والاستمرارية والوصول إلى شرائح أوسع من المستمعين. ومع ذلك، توجد إمكانات واسعة لمزيد من التطوير والنمو، حيث يمكن للبودكاست أن يلعب دورًا أكبر في إثراء المشهد الثقافي العربي وتوسيع دائرة الحوار، وخاصة مع تزايد الاستثمار الإعلامي في المجال الرقمي.
جاء البودكاست بعد أن طغت المرئيات علي الإعلام الثقافي ليعيد الاعتبار إلى الكلمة المسموعة، حيث أصبحت البرامج الأدبية والفكرية وجهة جديدة للمهتمين بالثقافة والأدب. على سبيل المثال، توفر «البودكاستات الأدبية» محتوى يثير التفكير ويعزز الترابط بين المستمع والمادة الأدبية، مما يمنح المستمعين فرصة للتأمل بعيدًا عن الاستعجال الذي قد تفرضه وسائل الإعلام المرئية.
ومن خلال تناول مواضيع ترتبط بالتراث، والتاريخ، والهوية، يسهم البودكاست في إعادة النظر في القيم الثقافية والموروثات العربية. يحاول صناع المحتوى تقريب الماضي من الحاضر، في ثنائية ستجعل من التراث جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية المعاصرة.
ومع ازدياد الاعتماد على الأجهزة الذكية وانتشار الهواتف المحمولة، يصبح البودكاست وسيلة سهلة وأكثر قربًا من الجمهور. وبهذا، يوفر فرصة للصحف التقليدية للانخراط في الإعلام الرقمي وتحسين تجربة المتلقي، حيث يمكن لهذه الصحف من خلال تقديم محتوى صوتي يتجاوز النصوص المكتوبة أن تصل إلى جمهور أوسع، مما يرفع من مستوى التفاعل الفوري مع الأخبار والمحتوى الثقافي.
رغم الفرص المتاحة، فإن التحول إلى البودكاست يمثل تحديات تتعلق بالتكنولوجيا والمهارات الضرورية لإنتاج محتوى صوتي احترافي، بالإضافة إلى ضرورة مراجعة استراتيجيات التسويق لضمان انتشار البودكاست بفاعلية. إن لم يُنظر إلى التحول الرقمي كعملية شاملة، فإن الوسائل التقليدية قد تجد نفسها متأخرة عن مواكبة توجهات الجمهور المتغيرة.
نخلص إلى أن البودكاست ليس مجرد صيحة عابرة، بل هو وسيلة متنامية تلبي حاجة المجتمع العربي إلى تجارب ثقافية أعمق وأقرب لنبض الحياة، ومع النمو المستمر في شعبية البودكاستات، يتجلى دورها المحوري في تعزيز الوعي الثقافي والإبداعي، لتبقى الحاجة إلى هذه المنصة قائمة ما دامت تقدم محتوى غنيًا يدفع المستمعين للتأمل والتفاعل.
ختامًا، يمثل البودكاست جسرًا يربط بين الماضي والمستقبل، ويعيد تعريف علاقتنا بالكلمة، إن كان للثقافة أن تتطور وتستمر، فهي بحاجة إلى صوت يعبر عن هواجس الناس ويدعوهم لاستكشاف ما وراء الكلمات.
ونختم بما قال الشاعر بشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بِمَن لا تَرى تَهذي فَقُلتُ لَهُم
الأُذنُ كَالعَينِ تُؤتي القَلبَ ما كانا