رقية نبيل عبيد
للكاتب الأميركي الشهير سيدني شيلدون مكانة خاصة عندي، فقد بدأت بالقراءة له في مراهقتي المبكرة مثله مثل كاتب الرعب المفضل لي ستيفين كينج، لكن على النقيض من كينج فإن أواصر الصلة التي كانت تربط بيني وبين شيلدون انقطعت تمامًا بعدما كنت مفتونة به بالكلية، ونسيت كل شيء عن ذلك الكاتب البوليسي المخضرم حتى البارحة فقط عندما وقعت روايته «لو جاء الغد» فجأة في طريقي.
وتذكرت فورًا روايته حدثني عن أحلامك التي أغرمت بها تمامًا منذ حوالي أربعة عشر عامًا، وأبهرتني وقتها بالحبكة الرائعة والمفاجأة التي ختم بها الكاتب قصته.
إن سيدني شيلدون كاتب بوليسي من الطراز الأول، فهو يمزج الغموض بالخدع العظيمة بالدراما الواقعية بالإثارة والحركة مع لمسة رقيقة من الرومانسية،وهكذا يصبح لديك رواية تصلح أن تحول لفيلم موثوق النجاح على الشاشة الكبيرة، يذكرني كثيرًا بدان براون كاتب شيفرة دافنتشي ومخترع واحدة من أحب الشخصيات عند جمهور القراء وهي البروفيسور روبرت لانغدون، لكن في حين تقولبتْ شخصية لانغدون بين الآثار والمعالم التاريخية وألغاز الماضي الممزوجة بشرور الحاضر، فإن شيلدون غزا كل الساحات وكتب في كل المجالات وتنوعت شخصياته وجاءت غنية بالأدوار المختلفة لأبعد حد! وعلى عكس ستيفين كينج الذي يقدم لك كل تفصيل بحذافيره، حتى أنه قد يفرد دونك ثلاث صفحات في وصف البندقية التي استخدمها البطل في قتل غريمه، فإن سيدني شيلدون يحب السرعة وتتالي الأحداث وتعاقب المَشاهد، وسرعته رغم ذلك لا تغفل تفصيلًا ولا تخلّ بحدث ولا تُوقع في طريقها أي إثارة أو رهبة أو شعور!
وما كانت روايته «لو جاء الغد» باستثناء.
تريستي تعشق الحياة وتُقبل عليها بكل قوة وأريحية وضمير مخلص، شابة في منتصف العشرينات وتحمل جمالًا خلابًا وقلبًا دافئًا ومستقبلًا مشرقًا، تريستي على وشك الزواج بابن واحدة من أثرى إمبراطوريات التجارة، وهي إلى ذلك موفقة كل التوفيق في عملها في واحد من أرقى البنوك، وتتصل بها والدتها لتطمئن عن حالها ولتخبرها كم تحبها وكم هي الأغلى على قلبها، وما إن تضع سماعة الهاتف من يديها تُلصق أمها المسدس البارد على صدغها وتضغط الزناد!
لقد خدع أحد كبار المدينة والدتها وجعلها تتخلى عن مصنع والدها الذي تركه لها بعد وفاته وفوق ذلك تصبح مدينة بنصف مليون دولار وعليها السداد وإلا الحبس، هكذا تعلم تريسي بعد بحث وتقصي بالمأساة التي أودت بوالدتها، لكنها ليست أوسع منها حيلة وفي طريقها للانتقام يُسقطها ذات الرجال في فخ جديد وتقع بسذاجتها في كل حبالهم! هكذا يتخلى عنها خطيبها وتُطرد من عملها وتُتهم ظلمًا وتُسجن لخمسة عشر عامًا!
وفي ظلمة الزنزانة، وحيدة دون أدنى معونة، تقرر تريسي بدم ثائر وقلب يتّقد أن تنتقم!
ولأن شيلدون لا يهوى التباطؤ فإن الرواية تحمل كل شيء ولا تتوقف صفحاتها بانتهاء الانتقام بل على العكس تمتد إلى ما ورائه، إلى حياة أخرى، ونوافذ جديدة، وتريسي تختلف بالكلية عن هذه التي بدأنا معها الحكاية، إلى بلاد بعيدة، وخدع ومكائد لا تنتهي، وحب عذب طازج جديد!
عندما تُنهي الرواية تتنهد بانتشاء، وتشعر وكأنك شاهدت للتو فيلمًا عظيمًا بإثارة وحبكة رائعيْن فوق كل وصف، ووقعتَ حتى أذنيك في حب البطلة والإعجاب بعينيها الخضراوين اللامعتين وبضحكتها العالية الساخرة وبروحها المحبة للانتقام وبذكائها الذي نما وأزهر في أحلك ظلمات صاحبته، وكان سلاحها الوحيد ضد حفنة من أقوى رجال العصابات.
كم نحن قادرون أن نفعل؟ إلى أين تُوصلنا خطانا إذا دفعتنا الأحداث وضغطتنا الظروف لأقصى حد؟ أي خفايا نمتلك داخلنا؟ أي إنسان قد يخرج منا إن صُهرت أرواحنا ودُمغت بالظلم قلوبنا؟ حتى أي درجة قد نصل؟ ما مُنتهانا؟ ما حدودنا البعيدة؟ هذا هو ما يخبرك به سيدني شيلدون في قصته الخلّابة هذه.