مشعل الحارثي
من الحكم أو الأقوال المأثورة التي كانت تتردد على مسامعنا في المدارس منذ الصغر وقبل ما يقارب خمسين عاماً (اطلبوا العلم ولو في الصين)، ووقتها لم نكن نأبه من معنى هذا المثل إلا الجدية والحث على طلب العلم حتى لو كان في آخر الدنيا التي تنتهي بالصين في بلاد الشرق الأقصى، ولياتي وبعد هذه السنين اليوم الذي نرى فيه أنه لم يعد للعالم حدود، ونرى جمهورية الصين وكأنها تجاورنا ونعرف عنها كل شيء ونلمس مدى ما وصلت إليه من تقدم وفي غفلة من العالم الذي كان يعتقد أنها لازلت أسيرة سورها العظيم بعد انطلاق عملية الإصلاح والانفتاح منذ عام 1978م وحرصها الأكيد على التخلص من القديم وبناء دولة مبدعة مبتكرة وتطوير صناعاتها حتى أصبحت تمثل اليوم مصنع العالم الكبير، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي لديها بوتيرة عالية ونقلها إلى طليعة دول العالم.
ولعل سر ذلك التفوق والنجاح المضطرد ووصولها للمنافسة العالمية في وقت وجيز يكمن في امتلاكها لأسباب النمو التكنولوجي والاجتماعي والمعرفي، وكما أكده الباحث الصيني تيان ينغ كوي في كتابه (طريق الصين) مضيفاً إلى ذلك تمكن الصين من تحقيق التنمية المستدامة التي يعتبرها وصفة الترياق للمجتمعات المتأخرة.
ولعل الذي استدعاني لهذه المقدمة ما تم الإعلان عنه مؤخراً من توقيع سمو وزير الثقافة الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان مع نظيره وزير الثقافة والسياحة الصيني سون يالي البرنامج التنفيذي لإقامة العام الثقافي السعودي الصيني 2025م والذي يهدف إلى ترسيخ الروابط التاريخية بين الشعبين السعودي والصيني، وتعميق أواصر الصداقة والتواصل المعرفي، وتعزيز التعاون والشراكة الاستراتيجية، مما يعطي الدلالة على أنه سيكون عاماً حافلاً ومميزاً من العطاء الإبداعي ويبرز التنوع الثقافي والإرث الحضاري للبلدين.
ويشتمل البرنامج على تنظيم العديد من الفعاليات والمهرجانات الثقافية والمعارض الفنية والبرامج المشتركة، وتسليط الضوء على عمق هذه العلاقات وتعزيز التبادل الثقافي كأحد أهداف رؤية المملكة 2030 ومبادرة الحزام والطريق.
لقد جاء تطور هذه العلاقات وما وصلت إليه اليوم من مستوى رفيع كنتيجة حتمية للحرص الكبير من قادة البلدين الصديقين على دفع هذه العلاقات بما يحقق مصلحة البلدين وشعبيهما، وفي إطار من التعاون البناء والفهم والاحترام المتبادل، وكان محصلة طبيعية وجادة للزيارات المتبادلة بين قيادتي البلدين على مدى أكثر من (80) عاماً، والتي اثمرت في المزيد من التعاون والشراكة وتحقيق سلسة من الخطوات العملية والتي تمثلت في توقيع العديد من الاتفاقيات وإقرار جملة من المبادرات والبرامج المشتركة في مجال الطاقة المتجددة ، والصناعة ،والبتروكيماويات ، وتقنية المعلومات ، والبنية التحتية ، ومشاريع الإسكان ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين وتشكيل اللجنة السعودية الصينية رفيعة المستوى خلال زيارة الرئيس (شي جينبينغ) للمملكة عام 2022م.
- في عام 2019م وخلال زيارة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء تم الاتفاق على إدراج اللغة الصينية كمقرر دراسي في المناهج التعليمية بالمدارس والجامعات السعودية وفتح افاق دراسية جديدة لطلاب المراحل التعليمية المختلفة وتعزيز التنوع الثقافي، وقد بدأ التنفيذ الفعلي لهذا التوجه منذ عام 2020م بعدد (8) مدارس ووصلت الآن في العام الحالي 2024م إلى أكثر من (700) مدرسة ، كما تم فتح باب الابتعاث في عام 2023م للمعلمين والمعلمات لدراسة اللغة الصينية للحصول على درجة البكالوريوس والماجستير في الجامعات الصينية إلى جانب استقطاب المملكة لــ(171) معلم ومعلمة صينيين لتدريس اللغة الصينية في العام الحالي 2024م ، وإقرار تدريس اللغة الصينية في اربع جامعات سعودية .
- إطلاق جائزة الأمير محمد بن سلمان الدولية عام 2019م للتعاون الثقافي بين المملكة وجمهورية الصين وتحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي العهد الأمين، والتي تهدف إلى تعزيز اليات التواصل بين الشعبين على مستوى الإنتاج الثقافي والتواصل الإبداعي.
- وباعتبار أن الصين تعتبر الشريك الاقتصادي الأكبر والتجاري الأول للمملكة بحجم التبادل التجاري الذي بلغ في عام 2023م (96.5) مليار دولار وبما يمثل نسبة 18 % من اجمالي حجم تجارة السعودية مع العالم، فقد تم وتعزيزاً لهذا الجانب الحيوي والهام تأسيس مجلس الأعمال السعودي الصيني الذي يعمل تحت مظلة اتحاد الغرف السعودية وجمعية الصداقة العربية الصينية ونتج عنه توقيع عدد من اتفاقيات التعاون والتفاهم الثنائية في العديد من المجالات التجارية والاقتصادية والاستثمارية.
إن ما تشهده العلاقات بين الرياض وبكين اليوم من تطور يسير بوتيرة متسارعة يشير إلى متانة وقوة هذه العلاقات، كما يبشر بنقلة جديدة من التعاون المثمر، ويعطي النموذج المميز لأبعاد هذه العلاقات الإيجابية بين الدول وبما يعود بالنفع الكبير على البلدين والشعبين الصديقين ويتواءم مع متغيرات العصر ومتطلباته، وبما يحقق التنمية الاقتصادية المنشودة، ويحفز على تضافر كافة الجهود لإضفاء الأمن والسلام والاستقرار على ربوع المنطقة.