أ.د.عثمان بن صالح العامر
يخوض الإنسان معارك عدة، ويجاهد على جبهات لا حصر لها ولا عد، ولعل من أشرسها وأقساها تلك التي تكون مع الذات، إذ إن الله - عز وجل - غرس في بني آدم غرائز ورغبات امتحاناً وابتلاءً له ما دام على قيد الحياة، وكثيراً ما نُهزم حين نواجه ذواتنا وننازل رغباتنا، ولذلك كان على الإنسان أن يدرب نفسه ويوطنها من أجل أن يظفر في معركته الدائمة التي لا تفارقه، وما إرشاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن طلب منه أن يوصيه بقول (لا تغضب) وكررها ثلاثاً، إلا دليل على أن الانتصار لن يتحقق في المرة الأولى ولا حتى الثانية بل لابد من الاستمرار في المحاولات الجادة وعدم اليأس، وترويض النفس على تقبل النتائج مهما كانت متدنية وصولاً للانتصار الأخير، وعلى الغضب قِس، في مواجهة كل منا ما يعتبره صفات سلبية في ذاته.
- وهو يوجب أولاً: أن يحدد - المنازل لذاته - سماته الشخصية السلبية منها والإيجابية بكل مصداقية ووضوح وشفافية، وتكون قناعاته داخلية لا خارجية، فكلمات الثناء التي يسمعها أو تهدى لها نثراً أو شعراً لا تزيده إلا تواضعاً وثقة، وعبارات القدح لا تفتك بعضده ولا تلوي عزيمته، فأحكام الناس في أيٍّ منا هي مجرد انطباعات شخصية نتيجة مواقف وأحداث ثنائية جمعتنا بـ (س) من الناس أو حتى بجمع منهم فكان الإسقاط غالباً.
أعلم أن هذا الأمر فيه صعوبة وربما يعجز الواحد منا تشخيص ذاته ولكن هذه هي العتبة الأولى للرقي في سلم المجد ولتحقيق النصر المنشود.
- بعد ذلك تأتي المواجهة المرتقبة بعد أن يكون الفرز وترتيب الأولويات ووضع الدرجات وعقد العزم على التغيير من أجل الانتصار على الذات، وليس هذا التشخيص والفرز مطلباً أساساً في باب القيم والسلوكيات الحياتية فحسب بل يشمل مكوّنات الذات المختلفة روحية كانت أو عقلية أو حتى جسدية.
شخصياً أحسست بشدة وطأة هذه المعركة هذه الأيام حين ارتفع معي (سكر الدم) فصارت قائمة الممنوعات تتعاظم أمامي يوماً بعد يوم، والمطالبة بتغيير سلوكي الغذائي تتكرر على مسمعي، والالتزام ببرنامج رياضي مكثف، والتغافل وعدم الزعل هي نصيحة كل محب مجرب، وحكايات من سبقوني في خوض هذه المعركة واستطاعوا بتوفيق الله الانتصار فيها هي زادي اليومي قراءة وسماعاً واطلاعاً.
نعم ... المرضى يخوضون معركة طاحنة مع ذواتهم، مثلهم الفقراء والمعوزون، والأيتام ومجهولو الهوية، وذوو الاحتياجات الخاصة أصحاب الهمم العالية، والموهوبون وأصحاب الطموح الراغبون ارتقاء سلم المجد، وأصحاب الثروات والثراء رجال الأعمال وسيداته، بل كل إنسان على قيد الحياة يخوض هذه المعركة ولكن طبعاً كل معركة تختلف عن الأخرى ولكل شخص سلاحه في مواجهة ذاته وطريقته في معالجة مثالبها، ومنا من ينتصر، ومنا من يُهزم ويظل أعجز من أن ينتقل من الرغائب الذاتية إلى الإيجابية الحياتية، والأشد من ذلك جعل المعركة تنتهي بانتصار الذات الرغائبية على الإيجابية الحياتية، فيصير الإنسان عبداً لهواه وأسيراً لغرائزه، ومع صعوبة أي معركة يخوضها الإنسان ضد ذاته إلا أن النتائج المنتظرة ستسره غالباً، وإن طال أمدها، وتعددت وجوهها، وتلونت شخوصها، وكثرت تحدياتها، وتنوعت عقباتها.
دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.