هادي بن شرجاب المحامض
منذ فجر الوعي كان الإنسان يسعى لفهم ذاته، تلك الذات المعقدة التي تتكون من أبعاد متداخلة: الجسد، الروح، والنفس. هذه الأبعاد الثلاثة هي عناصر جوهرية في وجودنا، ولكن: هل هي حقًا حرة ومستقلة كما نتصورها؟
أم أن هناك عرّابًا خفيًا، العقل، يتلاعب بها كدمى على خيط؟
العقل هو المنارة التي تقودنا في بحر الحياة المتلاطم، يوجهنا، يملي علينا تصرفاتنا، يفسر لنا العالم، ويمنحنا شعورًا بالسيطرة على مصيرنا. ولكن، كما نعلم من الفلسفات القديمة والحديثة، فإن هذا العقل قد يكون في حد ذاته قفصًا نحتجز فيه الروح والنفس.
الجسد، كمادة صلبة تنبض بالحياة، يبدو للوهلة الأولى كيانًا مستقلاً، ولكنه في الحقيقة ليس سوى أداة تُحرّك بإرادة العقل. كل حركة، كل خفقة قلب، كل خطوة تُتخذ ليست إلا تجسيدًا لأمر يصدر من العقل.
نحن نمضي في حياتنا باعتقاد أننا نختار، ولكن ما نحن إلا دمى تُحركها أفكارنا المبرمجة والمبنية على معطيات تجمعت عبر السنين.
أما الروح، ذلك البعد الغامض الذي يحمله كل إنسان في داخله، فهو الجانب الأكثر هشاشة. الروح تبحث عن معنى، عن هدف، عن حقيقة سامية تتجاوز ما يمكن أن يلمسه العقل أو يدركه، ومع ذلك، يتدخل العقل ليضع حدودًا لما يمكن للروح أن تتخيله أو تسعى إليه. يتلاعب بالعواطف والمشاعر، يُدخلها في قالب المنطق، ويُسكت نداء الروح الذي يطلب أن يتجاوز المحدود والمعلوم إلى المجهول اللامتناهي.
النفس، في هذه اللعبة، هي الساحة الكبرى حيث تتصارع القوى المختلفة هي مكان التقاء الرغبات والشهوات، هي ساحة الصراع بين ما يريده الجسد وما تتطلع إليه الروح. العقل يتدخل هنا كحكمٍ بين الأطراف، يُحدّد مسار الصراع، يُخمد التوترات، أو يشعلها، وفق حساباته الخاصة.
إننا إذ نفكر في أبعاد وجودنا بهذه الطريقة، نرى أن العقل ليس فقط محركًا، بل هو أيضًا مقيّد. نحن بحاجة للعقل كي نفهم، لكننا نحتاج للروح كي نعيش وللنفس كي نختبر. فهل نحن أحرار حقًا، أم أننا أسرى لهذه الآلة المفكرة التي توجه كل أفعالنا وتتحكم بكل حواسنا؟
ربما يكون الجواب ليس في استسلامنا للعقل أو تمردنا عليه، بل في فهم الدور الذي يلعبه كل بُعد في معادلة وجودنا. علينا أن ندرك أن العقل هو أداة، ولكن ليس السائق الوحيد. قد يكون هو العرّاب الذي يحرّك الخيوط، لكن الجسد والروح والنفس كلها عوامل تُكمّل بعضها بعضًا في رقصة الحياة المعقدة.
في نهاية المطاف، نحن بحاجة لأن نعيد التفكير في العلاقة بين هذه الأبعاد. ربما، بدلاً من أن نرى العقل كالسيد المطلق، يجب أن نراه كشريك في الحوار، كمستشار نلجأ إليه دون أن نتخلى عن الحق في أن نختبر، ونحلم، ونحب، ونشعر بلا حدود، وبما يستجيب بما دعانا الإسلام إليه ونهى عنه.