د. عبدالحق عزوزي
كنت أقرِّب لطلبتي أهم ما جاء به الدستور المغربي في مجال الهوية والانتماء الحضاري؛ فقلت بأن المغرب يعتبر من بين الأمم القديمة في العالم، بل وجد قبل أغلبية الدول الأوروبية والكثير من غيرها في القارات الأخرى. لهذا لا يطرح الانتماء مشكلاً لرعاياه. فضلاً عن ذلك، فالمحاولات الإجرامية للمستعمر بخلق التفرقة وسط الشعب وخاصة مع الظهير البربري لسنة 1930 والتي فشلت، يسمح لنا بالقول إن المشكل غير مطروح.
بعد التأكيد على أن «العربية تظل اللغة الرسمية للدولة» (الفصل 5، وهذا الاعتراف كان موجوداً في بداية الديباجة)، وبعد التأكيد على ما يلزم الدولة من «حماية اللغة العربية وتطويرها وتنمية استعمالها»، تمت الإشارة بالتساوي إلى أن «اللغة الأمازيغية تمثل لغة رسمية للدولة باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء».
فكل كلمة في هذه الجملة الأخيرة تستحق تعليقاً، ونفس إلزامية التعليق ينطبق على الفقرات التالية. وسنكتفي بالإشارة إلى صيغة رصيد مشترك التي تذكرنا بالصيغة التي استعملها حديثا الفصل 75 من الدستور الفرنسي والذي يقدم اللغات الجهوية على أنها «تنتمي إلى تراث فرنسا» وهو أمر لا يضفي قيمة ولا بوعد بارز على مستوى مكانتها، غير أن الأمر مختلف بالنسبة للمغرب.
هناك عرف دولي يقضي بأن كل ما يمس الأمة يجب أن يدخل في إطار الحفاظ على الوحدة. لهذا ففي الفقرة التالية التي تنص على قانون يحدد مراحل إضفاء الطابع الرسمي على الأمازيغية وطرق إدماجها في التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولويات، نسجل هنا الصيغة النهائية التي تنص على أن الأمازيغية يجب «أن تتمكن من القيام مستقبلاً بصفتها لغة رسمية». ثم إن الفقرة ما قبل الأخيرة تفتح اتجاهات أخرى للسياسة اللغوية أي الحفاظ على اللغة الحسانية «باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة»، و»حماية اللهجات والتعبيرات المستعملة في المغرب»، «إتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم»، وذلك لأجل ثلاثة أهداف وهي التواصل مع مجتمع المعرفة والتفاعل معه والانفتاح على ثقافات أخرى. ونحن إذ نكتب هذا الكلام فإننا مع ذلك نبقى مقصرين في الإفاضة في شرح بنود سعى من خلالها المشرع الدستوري التعبير عن كل المفارقات وكل التوازنات بين المستويات المحلية والوطنية والدولية المتوخاة من وجهة نظر ثقافية وخاصة لغوية. وقد انتهى هذا الفصل بالإعلان عن إنشاء المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية. فالمشرع الدستوري يتشبث هنا بالبحث عن التوازن اللغوي لتجنب بذور الانقسام، وبالتالي يمنع تأسيس الأحزاب على أساس من هذا النوع (الفصل 7)، وتفرض على الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري السهر على احترام التعددية (الفصل 28).
وموازاة مع ذلك، يعمل المشرع الدستوري جاهدا على إدماج هذا البعد الجديد للأمة بالتركيز على التلاحم الذي يجب أن يتولد عن هذا التعدد اللغوي المقبول والجامع لوحدة الدولة. ولقد كتبت الديباجة بنبرة حضارية وتلخص طبيعة الشخصية المغربية التي بنت عبر العصور الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك: «المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوؤ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء».
ونحن نتحدث عن الديباجة، لا بد من الإشارة إلى استقرار ديباجة دستور 1962 على حالها واستمرارها بدون تغيير إلى حين مجيء دستور سنة 2011، إذ باستثناء ما نص عليه دستور 1992 في ديباجته من إعلان «تشبث المملكة المغربية بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا»، لم يحدث أي تغيير على الديباجة سواء في حجمها، حيث ظلت متضمنة لصفحة واحدة وتحتوي على ثمانية أسطر وسبعون كلمة، أو في مضمونها، التي ظلت تضم ثلاثة مبادئ وخمسة التزامات كلها تتعلق بالسياسة الخارجية للمغرب. كما نلاحظ ضعف إحالة القضاء الدستوري عليها في ظل المرحلة السابقة على دستور 2011، فهو لم يذكرها إلا مرة واحدة وكان ذلك سنة 1963 بمناسبة نظر الغرفة الدستورية بالمجلس الأعلى في دستورية النظام الداخلي لمجلس النواب، ولكن في دستور 2011، أصبحت الديباجة مكتوبة في صفحتين بدل صفحة واحدة في الدساتير السابقة، كما أن عدد كلماتها انتقل من سبعة وسبعين إلى ثلاثمائة واثنين وأربعين كلمة؛ وأضحت ديباجة دستور 2011 تتضمن مقاصد، أو ما أسماه المجلس الدستوري بالغايات، وقيما، مثل التسامح والانفتاح والاعتدال والسلم والإخاء، ومبادئ دستورية عامة، مثل الحق والقانون والمشاركة والحكامة والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والسيادة الكاملة والهوية والمواطنة...