العقيد م. محمد بن فراج الشهري
بعد انتهاء الحرب الباردة احتاجت الولايات المتحدة لعدو جديد بديل عن الاتحاد السوفيتي السابق وهو احتياج تدفع إليه طبيعة النظام السياسي الأمريكي وأدواته ذات النفوذ، وفى مقدمتها المؤسسة الصناعية العسكرية التي ينبني وجودها على دوران عجلة الإنتاج العسكري، والذي لا يمكن إيقاف برامجه التي شيّدت على خطوط إنتاج تعمل للأجل الطويل، ولسنوات قد تمتد زمناً على المستقبل، بالإضافة إلى التداخل في المصالح بين الإنتاج العسكري، والاقتصاد المدني.
في البداية تراوحت اختيارات المدارس السياسية للعدو البديل ما بين الإسلام عدواً، وبين اختيار الصين كعدو، لكن الخيارين لم يجدا قبولاً عاماً في الولايات المتحدة، وخصوصاً أن الولايات المتحدة تربطها علاقات ومصالح قوية مع دول إسلامية، بالإضافة إلى تعاملات وشراكة مع أبرز جماعات الإسلام السياسي مثل الإخوان.
ويقول لورنزو فيندو إن العلاقة مع جماعات الإسلام السياسي هي نتاج لطبيعة عملية صناعة القرار في الولايات المتحدة، وتبعاً لأحداث تقع في دول المنطقة وتكون هذه الجماعات طرفاً فيها، وقياس نتائجها بالنسبة للمصالح الأمريكية. وإن كان حدوث تغيير كبير في السياسة الأمريكية يقع عندما تتولى إدارة جديدة الحكم، ولديها فريق جديد للسياسة الخارجية، يحمل أفكاراً مختلفة عن سابقه، مثلما هو الحال مع فريق المحافظين الجدد الذي تولى مسؤوليات الدفاع والسياسة الخارجية في إدارة بوش، والذي وصفت إستراتيجيته بانقلاب في السياسة الخارجية.
وفي عهد إدارة جورج دبليو بوش بدأ إجراء دراسة حول مدى توافق الإخوان مع سياسة أمريكا الخارجية، وظهر الاتجاه لمحاولة إبعاد شبهة الإرهاب عن هذه الجماعة. وفي هذا الوقت ألقى إدوارد جير جيان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط آنذاك خطاباً عاماً حول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، في قاعة المؤتمرات «ميريديان هاوس» في واشنطن، قال فيه إنه كان شديد الاهتمام بعملية البحث عن عدو، وبدأنا بتحديد الإسلام باعتباره هذا العدو البديل الذي ستواجهه الولايات المتحدة. وبحكم مسؤولياتي عن شؤون الشرق الأوسط بوزارة الخارجية، فإنني اعتقدت أن من المهم لحكومة الولايات المتحدة أن تعلن بوضوح تقييمها للقوى النشطة في الشرق الأوسط، وموقفها تجاه الدول الإسلامية بشكل عام.
وفي نفس المؤتمر تدخل روبرت ساتلوف مدير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط - المعروف بارتباطه بإسرائيل - فقال إن جيريجيان حاول أن يبعد عن تفكير الحضور أي توهم بأن الولايات المتحدة قد استقرت على اعتبار الإسلام هو عدوها القادم. وفي نفس الوقت فإن جير يجيان، أشار بطريقة ماكرة إلى عداء واشنطن للتحركات الإسلامية، متخذاً ما جرى في الجزائر نموذجاً، حين قال إننا قلقون من استغلال البعض للعملية الديموقراطية من أجل الوصول إلى السلطة، وذلك فقط لتدمير تلك العملية الديموقراطية والاحتفاظ بالسيطرة السياسية على السلطة. وبعد ذلك في مايو 1994م، تحدث أنتوني ليك مستشار الأمن القومي للرئيس كلينتون أمام معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فقال إن رفضنا لـ»التطرف الإسلامي»، راجع إلى استخدام هؤلاء للدين وسيلة للتغطية على نواياهم الحقيقية في السعي المستتر للوصول إلى السلطة السياسية.
كان هناك عنصران رئيسيان وراء غموض وتناقض الموقف الأمريكي من هذه الجماعات، وعدم قدرة الحكومة الأمريكية على إعلان بيان محدد تجاهها. أولهما راجع إلى العلاقة التاريخية مع الإخوان المسلمين، والثاني التفاوت في التعامل مع هذه الجماعات فيما بين دولة عربية وأخرى، وعلى سبيل المثال فإنها شريك في العمليات السياسية في المغرب، والأردن، بينما هي محظورة قانوناً في مصر وسوريا. ولذلك فعندما اكتشف حسنى مبارك الاتصالات التي كانت تجرى في سنوات التسعينات بين الأمريكيين والإخوان، وبعضها جرى في البيت الأبيض، وفي وزارة الخارجية وفي مقر وكالة المخابرات المركزية، فإن بعض المسؤولين الأمريكيين أعربوا عن قلقهم من أن هذه الاتصالات ستضعف من نظام مبارك، ثم إن مبارك نفسه استشاط غضباً، وقال في حوار مع الصحفية الأمريكية ماري آن ويفر، إن حكومتكم تجرى اتصالات مع هؤلاء الإرهابيين، مشدداً على أنه يقصد الإخوان، وإن هذه الاتصالات جرت سراً، وبدون علمنا.
لم يكن هذا الموقف من الولايات المتحدة قاصراً على مصر، لكنه تكرر في دول عربية أخرى، ففي العراق - مثلاً - أيَّدت إدارة بوش ضم الحزب الإسلامي العراقي - وهو مرتبط بتنظيم الإخوان في حكومة ما بعد صدام حسين، وأصبح طارق الهاشمي رئيس هذا الحزب نائباً للرئيس العراقي، وكثيراً ما كان يلتقي بالرئيس بوش وكبار المسؤولين في حكومته. وهي السياسة التي استمر على نهجها أوباما بعد ذلك. وفي حالة سوريا فإن مسؤولين أمريكيين كان من رأيهم استخدام الإخوان كقوة توازن توسع النفوذ الإيراني في سوريا.
وللحديث بقيه ...