د. محمد بن إبراهيم الملحم
تحدثت فيما سلف عن أهمية تأسيس ثقافة ومهارات الحوار في المدرسة، سواء لخدمة التدريس نفسه أو لزرع هذه الثقافة ومهاراتها لدى أبنائنا وبناتنا الطلاب ونتحدث اليوم عن المدخل المقترح لتحقيق ذلك في أرض الواقع وأمهد لحديثي وأهمية هذا المطلب أن الحوار الهادئ والنقاش العقلاني مهارة مفقودة في مجتمعنا مع الأسف، فغالبًا ما تسود مجالسنا الحوارات غير الهادئة، بل حتى داخل الأسرة نفسها. ويعود ذلك تاريخيًا إلى افتقار التعليم إلى توفير هذه المهارة، واكتفائه بالتدريس التقليدي النمطي الذي يقوم على التلقين، مما يزرع في نفس الطالب المتلقي أن هناك دائمًا سلطة معرفية عليه أن يحترمها بلانقاش، فإذا كبر وأصبح موظفًا أو معلمًا أو مهندسًا أو طبيبًا أو أبا، فإن دور السلطة المعرفية الذي كان يرافقه منذ الصغر، ويراه دائمًا أمام عينيه كالمثل الأعلى سيصبح هدفًا من أهداف حياته، سواء شعر بذلك أم لم يشعر. فكما أنه يطمح أن يكون معلمًا أو طبيبًا أو أبا، فإن في دواخل نفسه حاجة قد لا يعيها لكنها تلح عليه وهي أن يصبح مصدرًا للسلطة المعرفية التي مورست عليه سنوات طويلة. وهذا الشعور يجعله يعيش معارك كلامية لاحقًا، ليفرض سلطته المعرفية، حتى لو كانت في الرياضة أو الفن أو الثقافة أو غيرها من المجالات، بل حتى مع أبنائه كأب (أو أم) ومع طلابه (وطالباتها).
ولو تصورنا في الجانب الآخر أن إنسان اليوم كان أثناء دراسته في طفولته وأثناء طلبه للعلم في المدرسة الثانوية والجامعية قد تلقى المعرفة عن طريق النقاش والحوار، ورأى في معلمه التواضع للعلم وتبادل الآراء معه بهدوء، فإنه لن يسلك هذا المسلك الذي نراه اليوم من حرب على الرأي والرأي الآخر.
إن فقدان هذه الصفة أقصد مبادئ ومهارات الحوار الهادئ المتزن وفقدانها في المجتمع يعني غيابها أيضا عن فئة المعلمين كأسلوب حياة ومهارة تلقائية يتوقع توافرها لدى كل منهم، وأمام هذا الواقع فإن أي مشروع لنشر مبادئ ومهارات الحوار يستلزم أن يبدأ أول ما يبدأ في محيط المعلمين والهيئة الإدارية، ليستهدفهم هم أولا ليحققوا درجة إتقان عالية جدا وهو ما يمكن أن نتصور استمراره لمدة تتراوح بين عامين إلى ثلاثة قبل أن يبدأ تدريب الطلاب. فلا يمكن أبدًا أن نتوقع تمكن المعلمين من نقل ثقافة الحوار الهادئ إلى الطلاب بينما هم أنفسهم لا يملكون هذه الثقافة ومهاراتها بمستوى متقدم. فهي ليست مجرد معرفة يكتسبها المعلم في ذهنه ويحفظها ويتقن شرحها، بل هي أولا سلوك ينبغي أن يصل إلى درجة «التذويت» أي يندوج في الذات، مثلما نقول عن الاهتمام بالصحة فكما أنه جزء من ذاتك لا ينفك عنك ولا تفكر فيه أصلا فإن الهدوء في الحوار والاستماع للرأي الآخر بعقلانية وتعقل ينبغي أن يكون كذلك أو شيئا قريبا منه، ولهذا السبب، ولكي نصل إلى هذه الغاية، فإن «تغيير الصيغة»، أو ما يسمى «Paradigm Shift» سيكون أفضل منهج لإحداث هذا التغيير. وهوالذي يكون عادة من خلال بناء وكلاء التغيير Change Agents أنفسهم، وهم المعلمون هنا. فإذا تحقق مثل هذا المشروع بامتلاكهم المهارات المطلوبة بالدرجة المستهدفة كما تقدم بيانها فإن المشروع ينتقل بعد ذلك إلى المرحلة الجوهرية والمهمة وهي زرع وتأصيل ثقافة الحوار في الطلاب (والطالبات). والذي يكون من خلال عدة محاور: المحور الأول والمهم هو إعادة صياغة المناهج وطرائق التدريس بطريقة حوارية تقوم على إثارة الأسئلة التي تستجيب للدهشة وتطرح التناقضات. ومع أن هذا متوفر حاليا في عدد من المقررات إلا أنه يحتاج إلى تعديل طرائق التدريس بحيث تنتقل من حالة الإلقاء المباشر إلى حالة الحوارات المستمرة وتفعيل أسئلة المنهج مع إثرائها بحسب الموقف التعليمي، كما أنه على المعلم أن يستثير حفيظة الطلاب للخلاف حول نقطة أو نقاش، حتى يتدربوا على مبادئ الحوار في المادة التعليمية من فترة لأخرى.
المحور الثاني في هذا الشأن هو تنظيم برامج تدريبية مستمرة للطلاب على مهارات الحوار الهادئ، وكيف يستطيع الإنسان إقناع غيره وإيصال حجته بنجاح ودون مساس بحسن العلاقة مع الأطراف الأخرى. ولا شك أن مثل هذا المشروع عظيم، ولا يتصور الوصول إليه بسهولة، ولكن لابد أن تبدأ رحلة الألف ميل. فمنذ 18عامًا التي هي عمر الدراسة التي نفذها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني وأشرت مسبقا إلى نتائجها والتي كشفت عن ضعف في حوار المعلم-الطالب لا نعلم كم خطوة خطتها الجهات التعليمية في هذا السبيل! نعم، ربما توجد أنشطة متفرقة باجتهادات من مدارس أو إدارات تعليمية، لكن ما نتحدث عنه هو خطة ورؤية وزارية لنشاط شامل على مستوى كل المناطق يشمل جميع الطلاب، ويكون منهجًا رسميًا تتبناه الجهة التعليمية في المقام الأول. ولا شك أنها ستحتاج إلى شركاء معها في هذا السبيل، وأجد أن أبرزهم هو مركز التواصل الحضاري. ولكن في النهاية، يجب أن تعود ملكية ورعاية مثل هذا المشروع إلى الجهة التعليمية الأولى.
وقد يقول بعضكم إنني أحلم، ولا شك أنني أحلم. ولكن الإنجازات العظيمة دائمًا تبدأ بحلم. ومهما كان الحلم بعيدًا، فإننا سنسير إليه يومًا مع وطننا العظيم في رؤيته المباركة. والتي تمكن الوطن من صياغتها بعد أن كانت حلما، ثم رأينا اليوم عددا من إنجازاتها بفضل الله ثم ولاة أمرنا المهتمين والساهرين على تحقيق الحلم دون كلل، والأحلام تتحقق إذا كانت وراءها جهود مخلصة وإيمان بالرسالة.