الهادي التليلي
وأنت تعبر المسافات باتجاه القارة السمراء تستوقفك نقاط تتعالى عن الشرح والتفسير يمكن تلخيصها كلها في السحر الإفريقي الخالص الذي يشدك نحو مساحات تجعلك تستحضر قولة رولان بارط للقلب فكره الذي لا يصل إليه العقل «le coeur a sa raison que la raison ignore» .
فعلاً يقف العقل مشدوهاً أمام جمال هذه القارة وعبقها، وعلى الرغم من التناقضات التي تجعل بعضهم يقول أعجب من شعوب تمشي على الثروات ولا تجد ما تأكله، تلك هي القارة الإفريقية قارة منطق اللا منطق، وجمهورية بوروندي BOUROUND التي استقلت من الاستعمار البلجيكي في غرة يوليو 1962 في سياق انتداب ممنوح من الأمم المتحدة بعد هزيمة المستعمر الأسبق ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، لتدخل غوغاء من الحروب الأهلية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي.
أكبر مثال على ذلك بوروندي الثانية عالمياً من حيث ثروات النيكل والمنتجة للقهوة والشاي الأكثر جودة عالمياً، وتستحوذ عليها برندات دول دون ذكر المصدر الحقيقي الذي هو هذه الدولة المصنفة الأكثر فقراً في العالم.
بوروندي التي يكن شعبها وقيادتها حباً لا متناهياً للمملكة العربية السعودية وقيادتها، ويعود ذلك إلى إنشاء مستشفى الملك خالد منذ زمن، وهو المستشفى الجامعي الوحيد الذي يقدم خدمات طبية متقدمة في هذا البلد، كذلك يشدك حديث رئيس جمهوريتها إيفاريست نداي شيمي Evaliste Ndayishimie عن المملكة وقيادتها وعن إعجابه برؤية ولي عهده وتمنياته زيارة المملكة ومقابلة قيادتها التي يعتبرها مرجعاً تنموياً، تريد بوروندي الاحتذاء به خاصة وأنها يتوافر لديها مكونات النجاح، وأن وجودها في قعر التصنيف العالمي لا يليق بها.
بوروندي المكان الأنظف بيئياً في العالم والذي نسبة انبعاثات الكربون به صفرية يعد المكان الأنسب عالمياً ليكون عاصمة السياحة البيئية، حيث إن الأمطار تهطل على مدار تسعة أشهر والخضرة هي اللون المميز لمساحات هذا البلد، حتى أنك عندما تتمشى في شوارعها ينتابك إحساس بأن الشوارع معطرة بأرقى العطور.
البلدان الإفريقية التي وجدت حظها سياحياً مثل السيشل وغيرها التي نعرفها أكثر من بيوتنا لا ترتقي لجمال وعذرية المشهد الطبيعي لبوروندي التي تعتبر لوحة جميلة جداً لدرجة السحر، ولربما تأخر الحضارة عن بوروندي خدم عذريتها وجمالها حيث إنها لا تحتاج إلا إلى استثمار خارجي ومصاريف عملاقة في الإنشاء فقط توظيف هذا الجمال الطبيعي المتبرج.
بوروندي البلد الذي تصالح مع نفسه بعد الحروب العرقية التي كانت تغذيها أطراف عالمية وخسر الملايين من أبنائه يعد حالياً نموذجاً في التسامح بين الأفراد والفئات، وعلى سبيل المثال على الرغم من محدودية عدد المسلمين مقارنة بغيرهم، إلا أنك تجد وزراء مسلمين وكوادر عليا في الدولة، أيضاً عدد كبير من السفراء المسلمين، فالمقياس عندهم هو الكفاءة على الرغم مما يشاع حول هذا البلد الجميل.
ولأن على هذا البلد تجاوز الراهن إلى التقدم والنماء، فإن من بين التحديات الكبرى التي تقف أمامه هي الضعف الفادح في مواد الطاقة وخاصة النفط، حيث وأنت تتجول في شوارع العاصمتين بوجمبورة وجيتيغا يستوقفك مشهد الطوابير الطويلة جداً من السيارات أمام محطات البنزين التي يعلمك المرافقون بأنها تبقى على حالها بحالة انتظار مدة أسبوعين وأكثر بانتظار حظها من البنزين، فكل تلافيف عجلة التنمية متعطلة من هذا الجانب واحتياجهم للوقود أكثر من حاجتهم للماء، وإن كانت مساعيهم للحلول البديلة تتقدم على الرغم من ضعف الموارد والإمكانيات .
كذلك هناك تحد صحي كبير حيث إن مستشفى الملك خالد أصبح مع مرور الزمن مختنقاً أمام العدد الكبير جداً من طالبي الخدمات الصحية، بل حتى بعض الدول المجاورة أصبح مواطنوها يستفيدون من خدماته مما أدى إلى تزاحم دائم .
بوروندي البلد الجميل لا تجد فيه مساحات تجارية فلا يوجد بها مول واحد ولا طائرة واحدة ولا مطار يليق ببلد يتربع على التقاطع بين البحيرات الكبرى الافريقية، ويمتد على طول حدوده الجنوبية الغربية لبحيرة تنجانيغا، بل إنك لا تعثر على طريق رئيس ذي مواصفات واحدة ولا فضاء ترفيهي كبير واحد، ولا ميناء تجاري أو صيد بحري واحد.
نعم هذا البلد الذي يتوافر لديه أكبر مخزون سمكي في إفريقيا لا يوجد به ميناء صيد بحري واحد ولا صناعة سمكية .. بلد يتوافر لديه أجود المياه في العالم لا تتوافر به مصانع مياه احترافية .. وفي المقابل عندما تمر من بوجمبورة إلى جيتيغا تجد مشهداً لا يمكن أن تجده في أي بلد آخر في العالم، حيث ترى في طريق ضيق كله مرتفعات تلتقي شباباً على دراجات هوائية يحملون على رؤوسهم أكواماً من الموز، وبعضهم يحمل بضائع أخرى في شكل لولا عفويته لقلت إنه استعراضي بحت، بل وتجد على دراجة هوائية أخرى شاباً يحمل أمه على الدراجة من الخلف، وعلى رأسه أكوام من الفاكهة. أشياء متكررة دائماً تجعلك تنظر بعين المحبة لهذا الشعب المكافح الذي يقنع بحياته رغم صعوبتها وقسوتها.. شعب من خلال حياته اليومية يمكن أن تصنع أبطالاً عالميين في مختلف الرياضات وهو ما تراهن عليه الدولة وانتدبت أفضل مدرب جيد في إفريقيا عادل قيراط رغم محدودية الإمكانيات. شعب يعيش الرياضة في حياته اليومية وحتى كممارسة ترفيهية، حيث إنك عندما تستفيق فجراً وتطل من النافذة على البساط الأخضر الجميل تجد العشرات من الشباب يمارسون رياضة الجري وكأن حياتهم اليومية مباراة مهمة تحتاج إلى عمليات إحماء صباحية يومية.
الشعب البوروندي الطيب القانع المتسامح وهو يعيش تحدياته ينظر للمستقبل بكثير من الأمل، على الرغم من إيذاء الجوار الذين يقال إنهم يسرقون ثرواته يوماً بعد يوم، كذلك لا ننسى ضغط من الدول العملاقة التي تحاول تركيعه لكنه يرفض ويقنع بالعيش بطريقة بدائية على الذل، وعندما يقول لك رئيس دولتها ايفاليست نداي شيمي Evaliste Ndayshimie كلنا نحب المملكة العربية السعودية لأنها البلد الوحيد الذي أعطانا ولم يطلب منا مقابلاً سيادياً واحداً تشعر بفخر من يؤمن ويفخر بالعيش في هذا البلد.
بورندي التي تستفيق كل يوم على أمل بأفق أرحب تواجه حاضرها بكثير من الإصرار ومستقبلها بكثير من الأمل، إنها تتوثب للسعادة بعد الألم وللفرح بعد الحزن وهذا ما تلاحظه وأنت تتجول في أزقتها البدائية وجمال بساطها الأخضر، كما تحضرك أسئلة إجابتها ثاوية في تلافيف طرحها ففي هذه التضاريس الجميلة والوعرة في التنقل بين الأماكن ما حال المعاقين والمرضى والشيوخ ومن خانتهم صحتهم ومن ليس لهم مورد، وكيف يواجهون تحدياتهم اليومية في غياب وسائل نقل حديثة تتوافر بها أدنى مقومات الأمان؟ ولماذا لم يتم توظيف وسائل نقل حيوانية في ظل غياب الوسائل المعتادة؟ وما هي الحلول التي توصل إليها الأفراد والدولة لمجابهة زحف البحيرة المستمر؟ ولماذا لم يتم في كل أحقاب هذه الدولة البحث والقيام بدراسات جيولوجية للتأكد من أن قناعة عدم وجود بترول قناعة سليمة كلها أسئلة إجابتها ضعف الإمكانيات.
بورندي العذراء الجميلة الساحرة الإفريقية وهي تختار الانتماء لرؤية 2030 من حيث تبني الرؤية والرسالة والأهداف فإنها ستتحول - بإذن الله - إلى إحدى الدول المتقدمة لأن لديها كل مقومات النجاح.